كانت هناك اهتمامات متعددة لدى المثقفين الذين اجتمعوا في فندق *جميره* بدبي لتناول ما بعد الربيع العربي، منها، على ضوء الأحداث المتوالية في اليمن وسوريا وليبيا ومصر وتونس، محاولة فهم ما يحدث واستقراء معطياته. وكان البعض يرسل رسائل عبر الإمكانيات المتاحة، ندوات أو لقاءات هامشية، وأحيانا برامج متلفزة مع القنوات الممثلة في لقاء الفكر العربي، مع التوصية بطبع المداخلات التي لم يتسع الوقت لتقديمها كاملة، بالصوت والصورة. وكان حظي التلفزي لقاء مع حسناء من الثقافية السعودية، بمشاركة الصديق الأستاذ جهاد الخازن من صحيفة الحياة بلندن والأستاذة فاطمة الصايغ من جامعة الإمارات. وحرصت في مداخلاتي، ودائما من منطلق رفض الربط الآلي بين كل حدث بمؤامرة دولية، أن أوضح بأن أحداث سيدي بو زيد لم تكن أكثر من ردّ فعل على عمل مأساوي قام به بو عزيزي، لكن حماقة النظام واندفاعه نحو القمع حوّل الأحداث إلى انتفاضة ثم إلى ثورة أسقطت النظام، ولم يكن هناك لا أوتبور ولا كانفاس ولا *كرفاس*. وتنتقل الشرارة إلى مصر، وبرغم ادعاءات كثيرة عن أيدٍ أجنبية متورطة فلم يقدم المدعون أدلة تثبت ذلك، وبدا أن مصر لم تستفد كثيرا من التجربة التونسية، خصوصا فيما يتعلق بالأولويات. لكن ما حدث في ليبيا ثم في سوريا واليمن، اختلف تماما عن كل ما عرفته تونس ومصر، ولسبب بسيط جدا، هو أن قيادة النظام الحاكم في البلدين لم تضع أبناء الرئيس وأقاربه في مواقع السلطة السلطة العسكرية والأمنية، وكان الجيش جيشا وطنيا له تقاليده الراسخة التي تجعله يدرك أن مهمته هي حماية الأمن القومي للوطن لا حماية الممارسات السلطوية لنظام الحكم. وقلت في مداخلتي بأن من أهم الدروس التي يجب أن تؤخذ في عين الاعتبار بالنسبة للنظم الجمهورية أن يمنع رئيس الدولة من تعيين أي من أقاربه المباشرين في موقع السلطة السياسية أو المالية، وبوجه أخص..في موقع السلطة العسكرية أو الأمنية. ومن هنا اختلفت مع الأستاذ محمد حسنين هيكل، الذي رأى في أحداث سوريا واليمن ثورات لم تكتمل معطياتها، بما يمكن أن يعني أنه كان على الجماهير أن تنتظر حتى تكتمل المعطيات فيثورون على الظلم، وهو ما قاموا به فعلا طوال أكثر من ثلاثة عقود، استطاع النظام فيها أن يرسخ وجوده أكثر فأكثر. ولن أعود إلى أحداث ليبيا لأسأل من عابوا على ثوارها الاستعانة بالحلف الأطلسي عن موقفهم اليوم تجاه أحداث سوريا مثلا، خصوصا عندما نسمع أن قيادات في سوريا قالت لمواطنين يحتجون على اعتقال أبنائهم : "انسوا أولادهم وأنجبوا غيرهم"، ثم تتزايد الوقاحة وهم يقولون للمواطنين :" وإن شئتم... أعناكم على إنجاب غيرهم"، والمقصود البذيء واضح. ويبرز من خلال طروحات المتدخلين في الندوة حول الدولة تساؤل بالغ الأهمية، يتعلق بشرعية الدولة المستقبلية في البلدان التي شهدت الربيع الثائر، وكان ذلك على ضوء تحليل قدمه واحد من متقاعدي القوات المسلحة، قال بوصفه خبيرا عسكريا إستراتيجيا متخصصا أن انتخاب البرلمان الحالي ينهي وضعية الشرعية الثورية حيث تحل محلها الشرعية الدستورية. ولم يكن سرّا أن تحالف القيادات العسكرية مع بعض الأحزاب المتفوقة في الانتخابات يقف وراء هذا الطرح الذي يتناسى أن البرلمان القادم لا يملك كل مؤهلات الهيئة التشريعية ولا سلطاتها، ومن بينها اختيار الحكومة وسحب الثقة منها، وكان واضحا أن هناك من يريد أن يقول للشباب الغاضب: شكر الله سعيكم، لقد قمتم بواجبكم فعودوا اليوم إلى بيوتكم، واتركوا رجال الحكم وأهل السلطة يمارسون تخصصاتٍ معظمكم ليس مؤهلا لممارستها، وإلا فأنتم تعطلون دولاب العمل في البلاد وتعرقلون مسيرتها نحو بناء الدولة الجديدة، وهو نفس ما قيل لرجال جيش التحرير الوطني عندنا في 1962. وكان علينا في الندوة أن نوضح بأن الشرعية الدستورية خلال المرحلة المؤقتة هي امتداد للشرعية الثورية وتتويج لها وليست بديلا عنها أو نقيضا لها، بل إن البرلمان يجب أن يجد في *الشارع* رديفا مساعدا يمارس على سلطة الحكم من الضغوط ما يعجز عنه البرلمان. وهكذا تستمد دولة المستقبل إرادتها من شرعية الثورة بقدر ما تستند في ممارساتها إلى الهياكل المؤقتة التي يتم إقامتها، حكومة وبرلمانا، وإلى أن يتم إصدار الدستور الجديد وتنفيذ كل بنوده على أرض الواقع بما ينهي كل النشاطات الموازية، التي تظل تشكل، حتى تلك اللحظة، عنصر ضغط شعبي يكفل عدم الانحراف. وقلت لمن يرفضون هذا المنطلق بأن ثورة *الباستيل* الشعبية تحولت إلى إمبراطورية نابليون ثم إلى ملكيات عاد فيها آل *البوربون*، بدون أن ينسوا شيئا أو يتعلموا شيئا. وبنظرة سريعة إلى المستقبل، لست أرى بوادر صحوة وعيٍ لمعظم قيادات الأنظمة *الجملوكية*، لأن طول البقاء في السلطة يجعل من وسائل السيطرة وأبهة الحكم وغرور القوة مخدرا لا فكاك منه، والحاكم يرى "التسونامي" قادما نحوه فيخيل له أنه بمنأى عن أخطاره لأنه يرى نفسه أذكى من الآخرين، ومن هنا فإن القاعدة البشرية في الوطن العربي هي المؤهلة لإحداث التغيير المطلوب نحو الإصلاح، بشرط أن ندرك أن البناء الديموقراطي ليس ثلاجة أو جهاز تلفزة يكفي أن نستوردها لكي نستفيد من أدائها على الفور. وإذا كنت أرفض تحليل أحداث سوريا واليمن، طبقا لما يراه الأستاذ هيكل، وبما يبرر التقاعس في دعم الثورتين، فإنني، وبالنسبة للتعامل المستقبلي مع الأحداث، أرى أن يكون منطلق العمل في بقية الوطن العربي السعي إلى اكتمال العمل الثوري على أسس جديدة واعدة. وبداية الطريق هي إنجاز وحدويّ حقيقي وعملي يأخذ بعين الاعتبار أننا أهملنا المنطلق الحقيقي للوحدة الوطنية الداخلية وللوحدة الوطنية العربية. هذا المنطلق ليس السياسة وليس الاقتصاد ولكنه الثقافة، والثقافة أساسها اللغة الوطنية التي جعلت من فرنسا قوة سياسية هائلة اعتمدت الفرانكوفونية أساسا لتألقها في الألفية الجديدة. ولست هنا أبتكر جديدا، فرسول الله علمنا أن العربية هي اللسان. هنا يجب علينا أن ندرس كل الوسائل التي تجعل من الثقافة العربية قوة ضاربة حقيقية تدافع عن مصالح الوطن وتتبنى آمال الشعوب، وأول الخطوات هي العمل لتوحيد المناهج التعليمية العربية من المحيط إلى المحيط. وقد يبدو هذا تفكير طوباويا أو توجهات خيالية، لكنني أذكر بأن الفرانكوفونية تمثل قوة سياسية هائلة لأن المدرسة الفرنسية موحدة المناهج، سواء أكانت في باريس أو داكار أو القاهرة أو لندن، والبرامج الدراسية هي نفس البرامج والكتب هي نفس الكتب شكلا ومضمونا، ومن هنا يكون نتاج الثقافة الفرنسية تجمعات متناسقة الفكر موحدة الصفوف محددة الأهداف. ويمكن مرحليا، كما قلت، أن يترك لكل بلد إصدار كتبه المخصصة لدراسة التاريخ، لأن هناك من يريد أن يرى نفسه دائما صرة الكون وطليعة الخليقة، لكن علينا ألا ننسى بأن الوحدة الأوربية لم تنجح إلا عندما اتفقت كل الدول على إلغاء كل استعلاء تاريخي أو مطامح جغرافية أو أطماع إقليمية، ولم أدخل في كل التفاصيل التي قد تزعج بعض الأشقاء. وتزامنا مع توحيد مناهج التعليم، يجب أن نتجه لتوحيد مظاهر المحيط الوطني، ومن بينها توحيد *اسم* العملة العربية، ولا يؤخذ بمن يدّعون استحالة هذا لتعدد قيمة العملات في البلدان العربية، لأن الدولار الأمريكي يختلف قيمة عن الدولار الكندي أو الدولار المكسيكي، والروبية الهندية تختلف قيمة عن الروبية في باكستان، والدينار الجزائري يختلف قيمة عن الدينار التونسي، ووحدة الاسم يمكن أن تكون طريقا لتوحيد القيمة. ويمكن أن يضاف لهذا توحيد اللوحات المعدنية لترقيم السيارات، وأزعم أن النموذج الجزائري هو أصلح النماذج، ثم اختيار علم موحد يرفع بجانب العلم الوطني، وكلها عمليات تخلق وحدة الشعور العربي تدريجيا لتصل إلى تحقيق وحدة الإرادة العربية، وهي نقطة الضعف الرئيسية في العمل العربي. ومن هنا يتضح أن طريق تحقيق الربيع العربي التوافقي يمر بالفكر، وعلينا أن نعكف على صياغة الأسلوب الذي يمكننا من دخول الطريق واجتيازه، سيرا على درب الحكمة الصينية التي تقول بأن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة. *- كان طريقي إلى دبي يمر دائما باسطنبول، أو بمعنى أدق بمطارها الهائل، وكنت في كل مرة ألحظ التطور المتميز في قاعة الانتظار المخصصة لركاب درجة رجال الإعمال التي كان المضيفون يحرصون على منحي فرصة التمتع بمزاياها. وخلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة عرفت القاعة تحسينات جديرة ببلد يعرف معنى السياحة ومعنى حسن استقبال الزوار والمسافرين، خصوصا أولئك الذين يظلون في المطار في إطار *الترانزيت*، ولعلي أخصص للمطار حديثا مستقلا. وأكتفي اليوم بالقول أننا نستحق تمثالا من الحديد الصدئ على إهمالنا لمتطلبات السياحة. *- كان رفيقي في السفر كتاب ماري – بيار أولوا * فرانسيس جونسون، الفيلسوف المناضل*، وهو الذي كان نجم مجموعة حملة الحقائب الفرنسيين خلال الثورة، والمثقف الذي قدمته للرئيس هواري بو مدين، بتوصية من عبد الكريم غريب، حيث أجرى معه حوارا متميزا بلغة فرنسية راقية، أدهش الرئيس بها من كانوا يتصورون أنه..مجرد أرابيزان. وبملاحظة أن والد الثورة الجزائرية مصطفى بن بو العيد لم ينل من الاستقلال إلا نصف شارع خلف دار الولاية في العاصمة، فمنطقي ألا يحظى جونسون بزنقة صغيرة، تماما مثل مصطفى موسى، باني قصر الأمم وفندق الأوراسي، وكلا الرجلين يستحق وقفة متميزة. وهكذا أضيف إلى ما سبق أننا نستحق تمثالا من الصخر الصلب على تفوقنا في الجحود.