الجدل الذي أثارته تصرفات حزب التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية تحت قبة البرلمان بمناسبة النقاش حول قانون المالية والميزانية للسنة المقبلة، خاصة حول عدد الشهداء والتشكيك في جهاد شخصيات نافذة في الدولة، يشير بشكل واضح وصريح إلى ضحالة المستوى السياسي لبعض تشكيلات المعارضة التي أضحت تمتهن أساليب عمل مشكوك في خلفياتها وأهدافها، فما الذي يجعل حزبا من الأحزاب أو شخصية سياسية معارضة مهما كان صفها أن تقدم هدية على طبق من ذهب للاستعمار وللقوى التي تسعى إلى تشويه تاريخ البلاد وذاكرته الجماعية؟ الحادث غير المسبوق الذي تسبب فيه التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية عبر تصرفات زعيمه وبعض نوابه بالمجلس الشعبي الوطني خلال جلسة الرد المخصصة للوزراء على انشغالات النواب بخصوص قانون المالية والميزانية للسنة المقبلة، وصف على أنه "قنبلة"، ولم يأت هذا الوصف بشكل جزافي أو اعتباطي، بل لأن الموضوع أو بالأحرى المواضيع المثارة ضربت في الصميم ذاكرة الجزائريين الجماعية، واستهدفت ثوابتهم المشتركة وتاريخهم وأحد أقدس مقدساتهم أي التاريخ والشهداء. لقد استغل نائب الأرسيدي ونجل الشهيد البطل العقيد عميروش النقل التلفزيوني المباشر لمناقشات قانون المالية والميزانية ليتهم السلطات بتزوير التاريخ وعدد الشهداء، ولم يتوقف عند هذا الحد بل واصل تهجمه قائلا أن لديه وثيقة تثبت أن مسؤولا ساميا في الدولة الجزائرية، لم يذكر اسمه، خوفا على استقرار البرلمان على حد زعمه، كان عميلا للفرنسيين. والمؤكد أن ما قام به هذا النائب لم يكن عبارة عن تصرف فردي وإنما طريقة وأسلوب عمل يمتهنه حزبه منذ فترة، فالأرسيدي الذي عاد إلى البرلمان بعد قطيعة كادت أن تمسحه وتكنسه من الخارطة السياسية، وبعد تراجع حتى في عقر داره بمنطقة القبائل أمام غريمه الأفافاس وحتى العروش، أعمى بصيرته الجري وراء مجد زائف، فراح يبحث لنفسه عن موقع في المعارضة عبر ممارسة أساليب في العمل السياسي تذكرنا بذلك العهد لما كان هذا الحزب يبني مستقبله في السلطة على حساب القيم والثوابت، ويصنع لنفسه مكانا في الخارطة السياسية عبر مواقف تقتات بشكل أساسي من أزمة الدم والإرهاب. فما الذي يجعل الأرسيدي يشكك في المليون ونصف من الشهداء، وما هي الفائدة التي يجنيها من مثل هذه الطروحات الشاذة، وهل الشعب الجزائري الذي يدعي حزب سعيد سعدي تمثيله أو الدفاع عن مصالحه بحاجة لمثل هذه الرقصات الغريبة، ثم هل مناقشة قانون المالية والميزانية يتطلب هذا التهريج الذي لا طائل من ورائه غير تدنيس مقدسات البلاد؟ ألا يصب ذلك كله في خدمة الطروحات الاستعمارية، وهل نسي نائب الأرسيدي تلك الحملة التي قادها الوزير الفرنسي كوشنير ضد وزير المجاهدين وما تهدف إليه تلك الحملة من إساءة لكل المجاهدين والشهداء؟ الأرسيدي لا يريد ممارسة المعارضة كما تقتضيها الأعراف السياسية، أو بالأحرى لا يعرف ممارسة المعارضة، ولقد أثبتت الأيام ومواقف هذه التشكيلة السياسية من مختلف الأحداث التي عصفت بالبلاد منذ اعتماد التعددية السياسية أن التجمع من أجل الثقافة والديموقراطية لا يفقه في الواقع أي شيء في الديموقراطية ويخاف التعاطي مع هذه القيمة الإنسانية لمعرفته الأكيدة بحجم تمثيله الشعبي، ولجوئه إلى أساليب التهريج السياسي، كما فعل في المجلس الشعبي الوطني لا يعبر عن نقطة قوة وإنما عن مستوى متدني للثقافة السياسية وللفعالية في الداء داخل قبة البرلمان وخارجها. لقد تعمد الأرسيدي الخوض في قضايا أخرى من أجل التميز وجلب الانتباه، وتعمد التجريح وإثارة الفوضى والدخول في مناوشات مع الوزراء والنواب للظهور بمظهر المعارض الشرس، والكل يعلم أن ما يرمي إليه هذا الحزب الذي يريد دخول الاستحقاقات المقبلة على طريقة "خالف تعرف"، فهو لا يقدر على مواجهة تعديل الدستور أو العهدة الثالثة بالعمل الميداني وبالتجنيد الشعبي الذي يفتقده، فراح يخوض معارك وهمية ولو على حساب قيم الأمة وتاريخها وشهدائها. التشكيك في العدد الرسمي لشهداء الثورة هو وصمة عار على جبين بعض المنتسبين لهذا الوطن، فهل يعقل أن تكبر الثورة الجزائرية حتى في أعين الأعداء، ويعتبرونها أعظم ثورة في القرن العشرين ويأتي من أبناء جلدتنا من يشكك في كل شيء، ألا يعلم الأرسيدي، وهو الذي يدعي زعيمه سعدي بأن له التاريخ ولغيره المحروقات، أن التشكيك في عدد الشهداء هو خدمة مجانية تقدم لبعض الفرنسيين خاصة يمينهم الذي يعتز بماضي فرنسا في الجزائر ويعتبر الاستعمار رسالة حضارية، ويقيم النصب التذكارية لسفاحي منظمة الجيش السري الفرنسية، ثم ألا يعرف هذا الحزب بأن موقفه يسعد كثيرا أصحاب قانون 23 فيفري الممجد للاستعمار الذين يحاولون مسح عار فرنسا وجرائمها النكراء التي يندى لها جبين الإنسانية جمعاء، فلماذا لم يدخر هذا الحزب جهد نوابه، إن كان له التاريخ ولغيره المحروقات كما يقول سعدي، لدفع فرنسا إلى الاعتراف بجرمها في الجزائر وإرغامها على الاعتذار كما فعلت جارتها ايطاليا مع جارتنا ليبيا؟ والذي يصعب على أي عاقل فهمه واستيعابه هو كيف يتحول حزب جزائري إلى خادم لأطروحات استعمارية، فأسلوب التشكيك في الثورة والشهداء والمجاهدين..الخ، هي صفة تتصف بها الأمم التي لا تحترم نفسها، ولقد عشنا في السابق أطوار حملات شعواء ضد وجوه تاريخية معروفة، على غرار وزير المجاهدين محمد الشريف عباس حتى جاء الخبر اليقين من رفقائه في السلاح، ووصل الأمر إلى حد التشكيك في جهاد رئيس الدولة والهدف معروف، وقد نصل مستقبلا إلى حد الطعن في جهاد كل أبطال ثورة التحرير الواحد تلو الأخر، فهل يعقل أن يستقي نائب جزائري معلوماته من وزير دفاع فرنسي سابق، فمتى كان المسؤولون الفرنسيون يمارسون العمالة لصالح الجزائريين ويبيعون أو يهدون أسرار دولتهم لنا؟ أسلوب التعري وكشف العورة الذي يمارسه حزب سعدي يعطي صورة ولو مصغرة عن الثقافة السياسية لبعض تشكيلات المعارضة عندنا، ومن يتتبع ما سمي بالجدل حول عدد شهداء الثورة على عدد من الفضائيات على غرار "العربية" و"الجزيرة" يهتدي حتما إلى استنتاج بأن بعض الجزائريين يبيعون لحمهم بأرخس الأثمان لغيرهم، ويوفرون لهذا الغير ما يتجرأ به على هذا الوطن، وأسلوب المكاشفة البليدة والمشوهة هي التي جعلت صورة البلد تتهاوى في مرحلة سابقة تحت وقع أطروحة "من يقتل من"، وتنقلب الجزائر من بلد المليون ونصف المليون من الشهداء وبلد النخوة والكبرياء إلى وطن يعيث فيه الإرهاب فسادا ويرقص فيه التغريبيون على أشلاء الأمة وقيمها وتاريخها. ولمن يسأل عن ملايير الدولارات التي ستصرف على إنجاز المسجد العظم بالمحمدية، الموقع الذي شهد مجازر الفرنسيين ضد قبائل العوفية والذي هزم فيه قائد الحملات الصليبية شارل لوكان، عليه فقط أن يتساءل عن الملايير التي لا تعد ولا تحصى والتي ترصدها أمريكا وحلفائها للتمكين لعمليات التنصير في الجزائر.