هل كان الرجل يقرأ المستقبل•• أقصد المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس؟•• مبرر طرح هذا السؤال، أن ذلك المصلح كان الوحيد الذي مدح كمال أتاتورك مؤسس تركيا الحديثة••• ••• وقبل أتاتورك كانت تركيا، أو الامبراطورية العثمانية أو الدولة العلية•• وغيرها من الأوصاف، كانت تنعت ب" رجل الشرق المريض••• وكان رجل الشرق المريض هذا تلقى ضربة قاصمة في 20 أكتوبر 1827 خلال معركة نافارين البحرية الشهيرة التي دمر فيها التحالف الثلاثي البريطاني، الفرنسي والروسي الأسطول العثماني الذي كان مدعما من الأسطولين المصري والجزائري، وكانت تلك المعركة بداية العد العكسي لاحتلال الجزائر بعد تدمير وحداتها البحرية•• وهذا موضوع آخر•• الشرق المريض في أوروبا وشمال افريقيا والشرق الأوسط ظهر هذا الرجل الذي أزال كيان منخور منهوك•• وسلطان محاط ببلاط من الدراوشة والوصوليين والأفاقين والمنافقين، وهي بعض التعابير التي استعملها بن باديس في المقال الذي نوه فيه بما قام به مؤسس تركيا الحديثة••• العالم الاسلامي كله، شيوخه وفقهاؤه ودراويشه، بكووا وندبوا على ما أسموه القضاء على الخلافة ما عدا هذا المصلح المستنير ذي النظرة الثاقبة الذي كان يعي ويدرك أن خلاص الأمة الاسلامية لا يمكن أن يتحقق إلا بتأسيس دولة حديثة، في نظمها وطرائق تسييرها ومناهج إدارتها، وأساسا الأخذ بأسباب الرقي والتقدم وهي في نظره العلوم والتقنيات•• كان موقفه استثناء وكان حينئذ استفزازا• ولكن الأيام والسنون والأحقاب أثبتت عمق حدس الرجل، رجل الاصلاح والتعليم في الجزائر•• وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، كما يقول البلاغيون، ها أنذا أسمح لنفسي التذكير بمفكر آخر جزائري، مفكر عقلاني من الطراز الأول، ومفكر إسلامي متشبع بالثقافة الحديثة، لأنه أصلا مهندس في الكهرباء•• أعني المرحوم مالك بن نبي، ذلك الرجل الذي أفنى عمره في التفكير في همّ العالم الاسلامي من: طنجة الى جاكرتا•• أحد عناوين كتبه ووضع نظرية حدد فيها الأساليب والسبل التي ستجعل العالم الاسلامي يعيش عصره كقوة مؤثرة فيه مثله مثل القوى الغربية التي كانت تستهدفه•• نجد ذلك التوجه وتلك الدعوة وذلك التحليل العقلاني في جل كتبه ومؤلفاته ومحاضراته ومقالاته وأساسا: شروط النهضة ومستقبل العالم الاسلامي• هذا المفكر الفذ تعرض لما يمكن أن نطلق عليه أو بالأحرى، كما يقول المثل الأنبياء يضطهدون في أوطانهم أو في أممهم•• فقد تعرض الى نكران وجحود وتضييق وتشويه وتشنيع ومحاولات محو•• ولعل في واقعة أن البيت الذي ولد ونشأ وترعرع فيه بمدينة تبسة تحول ليس فقط الى خراب، بل الى مرتع مهجور يرتاده المنحرفون كما كتبت عن ذلك الصحف•• عوض أن يكون متحفا ومزارا! ما قام به كمال أتاتورك، من تتريك للدولة، وتبني الحروف اللاتينية عوض الحروف العربية وانتهاج اللائكية وفرض التغريب وغيرها من المظاهر لم تمح روح تركيا ولا جذورها الحضارية والثقافية، وحتى اللائكية التي كانت أمرا مقدسا يحميها الجيش الذي أسسه، لم تعد اليوم سيف دمقليس•• فها هي هذه الدولة الحديثة تعود لمحيطها الحضاري في منطقة الشرق الأوسط، ويدرك حكامها بذكاء وحنكة ومهارة أن انتسابهم لأوربا لا يمكن أن يتخطى مستوى معينا حددته أوروبا ذات البعد المسيحي رغم تظاهرها عكس ذلك•• ولعل في واقعة رفض انضمامها للمجموعة الأوروبية رغم كونها مستوفاة الشروط ورغم كونها عضوا في الحلف الأطلسي ما يكشف عن الدوافع والأسباب الحقيقية لموقف الدول الأوروبية وفي مقدمتها فرنسا••• هل كان ابن باديس يدرك هذه الحقيقة؟•• سؤال تشكل التوجهات الجديدة لتركيا بعض الاجابات عنه• كما يجسد التردي العربي في المنطقة التي أصبحت فيه بعض دوله هي الكيانات المريضة في الشرق وكذلك بعض الإجابة عنه؟•• دولة أخرى إسلامية في أقصى جنوب شرق آسيا، وأعني بها ماليزيا هي كذلك تكشف نهضتها وحداثتها وتقدمها العلمي والتقني مدى صدق تفكير مالك بن نبي•• ذلك أن تحاليل الرجل الفذ وأطروحاته الفكرية والاقتصادية نجد الكثير منها كانت مرجعا لاستنباط أنماط تسيير في قطاعات النشاط الاقتصادي والمالي لهذه الدولة الصغيرة بتعداد سكانها الكبيرة بما حققته من حداثه وتقدم، ولعل ظاهرة البنوك الاسلامية التي انطلقت من هناك ما يؤكد هذه الحقيقة•• ماليزيا اليوم ليست الدولة التي توجد في عاصمتها كوالالمبور أعلى ناطحة سحاب في العالم إنما هي كذلك البلد الذي ينافس أكبر الدول في صناعة الحديد مثل الهند بجانب المبتكرات الالكترونية والإعلام الآلي•• شخصيتان جزائريتان مفكرتان من أعلى طراز•• بعضها نتذكرها في مناسبة فولكلورية، وبعضها يكاد ينسى، كانت قمة في الفهم الصحيح للاسلام كدين لكل العصور، شخصيتان كان فهمها تنويرا ودعوة للتسامح والأخذ بأسباب التقدم ومعايشة العصر•• أهملناهما وتنكرنا لهما• وهنا أود أن أذكر أن الجزائر في السبعينات وحتى بداية الثمانينات بالنسبة لمعضلة تحديد يوم بدء الصيام تبنت الحساب الفلكي وكادت أن تقنع به كل البلدان الاسلامية خلال مؤتمر إسلامي في اسطنبول أواخر السبعينات، وقد سجل كبند لمؤتمر قادم•• لكن هذا التوجه تم إهماله والتخلي عنه في بداية الثمانيات لأن المرحوم الشيخ الغزالي الذي كان آنذاك في جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة كان له رأي مخالف وأتذكر ما قاله حول الأخذ بالاثنين الرؤية والحساب الفلكي، وهو أمر غير قابل للتحقيق علميا ودوما ما عدى الصدفة•••