في سنة 1916، حل بالجزيرة العربية رجل الاستعلامات البريطاني (توما إدوارد لورانس) الذي عرف فيما بعد بلورانس العرب. العميل البريطاني قدم نفسه لحسين بن علي، شريف مكة آنذاك، على أنه صديق للعرب ويسعى لصالحهم. من وقتها تحول رجل المخابرات البريطاني إلى "صديق" حميم للحكام العرب في المنطقة مشاركا إياهم الحرب ضد الوجود التركي. مهمة لورانس، كما تؤكدها كتب التاريخ، كانت تتمثل في أمرين اثنين: إقناع العرب بتنسيق مجهوداتهم بما يخدم المصالح البريطانية في المنطقة من جهة، وقطع كل علاقة لهم ببقايا الإمبراطورية العثمانية من جهة أخرى. لورانس أصبح، في وقت قصير، من أقرب أصدقاء شريف مكة، وكان له الدور الكبير في التمهيد لبسط السيطرة الأوروبية على المنطقة العربية. فبعد أن دفع بالعرب إلى الثورة على الوجود التركي، وهي الثورة التي امتدت من مكة إلى القدس مرورا بدمشق والعقبة، وشارك فيها، إلى جانب العرب المسلمين كل من المسيحيين واليهود؛ بمعنى أنه وقع تحالف بين العرب المسلمين والمسيحيين واليهود ضد الأتراك المسلمين. الثورة العربية أدت فعلا إلى خروج الأتراك من المنطقة في 1918، وفي أقل من سنتين على ذلك، وتنفيذا لاتفاقيات سايكس-بيكو السرية، قامت فرنسا ببسط نفوذها على سورية، ليتبع ذلك سقوط كل المنطقة العربية تحت السيطرة الأوروبية. لورنس العرب عرف كيف يضحك على شريف مكة ويجعله يحارب القوات العثمانية ويخرجها ليسلمها مرغما إلى الأوروبيين. المنطقة العربية انتقلت بسوء التصرف والتقدير من التبعية للإمبراطورية الإسلامية العثمانية إلى الاستعمار المباشر أو الغير المباشر الأوروبي المسيحي، الذي عمل فيما بعد على زرع الكيان الصهيوني في قلب منطقة الشرق الأوسط. الكتب التي تناولت حياة لورانس تشير إلى انه كان يتكلم العربية بطلاقة وكان يحلو له ارتداء اللباس العربي وركوب الجمال، ومع ذلك فأن كرهه للعرب كان بلا حدود؛ فهو يصفهم، في كتاباته، بالدراويش وبالحشود المتوحشة. لعل لورانس الذي خبر أغوار الذات العربية، خاصة لدى الحكام، يكون قد لمس فعلا هذا الجانب البهلواني والدرويشي لدى قادة هذه الأمة. الحكمة في حكاية لورانس مع العرب ليست في كرهه لهم أو في أستغبائه لحكامهم، بل في كون الغرب يواصل الضحك على العرب، بنفس طريقة لورانس، لحد اليوم. شريف مكة لم يبق يتيما في التاريخ بل فرخ العديد من "شرفاء" مكة الذين يشبهونه في كل شيء، فالحاكم العربي لازال يتصرف حتى في زمن تكنولوجيات الاتصال بنفس عقلية ودروشة وغباء شريف مكة. عندما نخرج من الإطار العربي الضيق نحو البعد الإسلامي، نلاحظ أن المسلمين الغير عرب قطعوا شوطا معتبرا في التنمية ورشاده في الحكم. قادة الدول الإسلامية، سواء في ماليزيا أو إيران أو تركيا أو غيرها، تميزوا عن غيرهم من العرب بالقدرة على إدراك خلفيات ما يجري واستشفاف الآثار المستقبلية للأحداث الآنية والاستعداد لها. إذا أخذنا تركيا كمثال، لنلاحظ أن أتاتورك يكون وهو يضع الدستور التركي الذي أدخل بموجبه العلمانية إلى بلده، في بداية القرن الماضي، قد فكر في تطوير تركيا وجعلها تلحق بركب الغرب. تركيا العثمانية، الرجل المريض، تأخرت كثيرا عن التطور الذي كان يحدث في عالم ذلك الوقت، ويكفي للتدليل على ذلك أن تلك الدولة منعت دخول المطبعة إلى أراضيها بناء على فتوى من أئمة المسلمين تقول أنه لا يجوز طباعة القرآن الكريم بهذه الآلة، مما جعل صناعة الكتاب –ومعه الصناعات الثقافية المرافقة لدمقرطة المعرفة- تتأخر في العالم الإسلامي لعدة قرون. أتاتورك وهو يقطع، بالدستور الجديد، شعرة معاوية التي كانت تربطه بالعالم العربي يكون قد لاحظ ما آل إليه حال العرب وقتذاك، وكيف أنهم استعانوا بالأوربيين على بني دينهم وجلدتهم. بعد حوالي قرن من الزمن، يأتي أربكان ليقول أن له مسؤولية تاريخية تجاه فلسطين. بمواقفه الأخيرة أعاد أربكان تركيا إلى العالم العربي وأخرج الحكام العرب نهائيا من الضمير العربي. أربكان وهو يتكلم في برلمان بلده عن الحق الفلسطيني كان يعبر عما يجول في خاطر كل مواطن عربي من المحيط إلى الخليج. كلامه بين أن الرجل يدرك تماما ما هي حدود قوة إسرائيل مما جعله يتحداها لأنه يعرف بأنها بلغت منتهاها ولا تستطيع أن تفعل أكثر مما فعلته. الملايين من العرب تابعوا غضبة الحاكم التركي ووقفته الشجاعة مغادرا قاعة منتدى دافوس بكثير من التقدير والاحترام. نفس الملايين من العرب تابعوا، على المباشر، الحركات المترددة والغير موزونة لعمر موسى العربي ابن العربي والممثل لجامعة العرب والذي يفتقد لجرأة أربكان وشجاعته. ولأن العرب لازالوا في مستوى الدراويش فقد قام "شريف" مكة الحالي بالتبرع لمنتدى دافوس بنصف مليار دولار لمحاربة الجوع في العالم، في اليوم التالي لغضبة أربكان على منتدى دافوس، مع أن نفس الشخص بذل كل جهده وثقل بلده بالبترودولار من أجل منع عقد قمة غزة. "شريف" مكة يتبرأ، بنصف مليار دولار، من موقف الزعيم التركي. كل الملاحظين قرؤوا في "كرم" الملك السعودي ردا على موقف أربكان التركي. في نفس الوقت، يستمر "شريف" مصر في غلق معبر رفح وفي البحث والتنقيب عن المعابر السرية التي يستعملها الفلسطينيون لتمرير السلاح ليدمرها معبرا لإسرائيل وللولايات المتحدةالأمريكية عن كفاءة مهنية عالية في الوقوف ضد التيار، وضد الحق، وضد المقاومة؛ وتواصل وسائل إعلامه الحديث عن السلم مع إسرائيل كخيار استراتيجي وحيد، مع أن آخر أمي في أبجديات السياسة في آخر بلد يستطيع أن يستوعب أن الخيارات الإستراتيجية تحتوي دائما على عدة بدائل، أو على الأقل بديل آخر يلجأ إليه في حالة تعطل البديل الأول. القول بالخيار الواحد مع إسرائيل بالذات يعني بكل بساطة القبول بكل ما يفرضه هذا الكيان العدواني من حلول واقتراحات توجه في شكل أوامر لأن قادة إسرائيل يعلمون مسبقا أن لا خيار آخر أمام القيادة المصرية سوى القبول بكل ما يقترحون. "شرفاء" مكة لهذا الزمن يواصلون على نهج أسلافهم، فيقاومون المقاومة، ويخوضون المعارك لصالح الغير، مع أن التاريخ يثبت أن العرب بدون مقاومة يتحولون إلى كم مهمل من طرف البشرية والتاريخ. العالم العربي مصاب بالعقم، فهو لا ينتج لا فكريا ولا علميا ولا حتى قادر على حماية كرامته أو مصالحه، وكل ما يستطيع إنجازه في الوقت الحالي هو القيام بأدوار ثانوية لصالح القوى العظمى. الدول العربية التي لها بصيص من الوعي ليس أمامها من خيار سوى الانسحاب من ذلك الشيء المسمى جامعة الدول العربية والبحث عن تكتلات جديدة خارج الإطار العربي ولتكن مع دول إسلامية تدرك معنى المقاومة والتحرر وترفض، على الأقل، القيام بأدوار الفتوة من الدرجة الثانية. فتوة لا أخلاق ولا كرامة لهم.