المارسيليون يعتبرون مدينتهم قلب المتوسط النابض ، ومينائها الرئة التي يتنفسها بها ، ويقولون أنهم وجهوا 60 بالمئة من اهتمامتهم الإقتصادية نحو الجزائر، من خلال 270 جمعية مهتمة بتطوير التعاون مع الجزائر ودول متوسطية أخرى. مارسيليا بالنسبة إلينا الجزائريين هي عبد الكريم زياني اللاعب الدولي الجزائري الذي يلعب لفريق مارسيليا، وهي أيضا أول مدينة تشد إليها رحلة المهاجرين الجزائريين منذ عام 1906 ، ومن مينائها انطلقت أولى بواخر الإحتلال، وعبرها يتشكل تاريخ العلاقات الثنائية مع فرنسا. من مدينة إيكس أونبروفونس الجميلة ، حيث مقر " الأرشيف الجزائري في فرنسا " في مديرية الأرشيف الفرنسي لما وراء البحار ( أرشيف المستعمرات ) انتقلنا إلى مدينة مارسيليا التي لا تبعد عنها سوى 25 دقيقة . الذهاب إلى مارسيليا تختلج فيه عدة مشاعر، بدء من أولمبيك مارسيليا الذي يلعب له اللاعب الدولي الجزائري عبد الكريم زياني، ولعب له قبله العديد من اللاعبين الجزائريين، إلى مارسيليا التي تحتضن حاليا جالية جزائرية معتبرة، إلى مارسيليا التي ستحتضن تظاهرة ثقافية عام 2013 " مارسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية ". في باريس كان زملائنا الفرنسيون يحدثوننا عن " جمال مارسيليا " ، عن البحر الأبيض المتوسط، وعن سمات إنسان المتوسط، وعن الشمس المشرقة 300 يوم في السنة، وإن كان هذا لا يعني شيئا بالنسبة لنا الجزائريين حيث الطبيعة الخلابة وإطلالة الشمس الدائمة، والفصول الأربعة ، لكن بالنسبة للباريسيين تعني الكثير والكثير، فالشمس هناك عملة نادرة. كل ذلك خلق لدي الرغبة الجامحة لزيارة مارسيليا. بوصولك للمدينة تشعر أنها تحتضن الزوار، وأن ذراعيها المفتوحتين ليسا سوى البحر المتوسط ، وميناء مارسيليا المفتوح على الشارع الرئيسي للمدينة. في وسط المدينة ، وعلى مقربة من البحر تنتصب عمارة تاريخية رائعة الهندسة، إنها غرفة الصناعة والتجارة بمرسيليا، حيث استقبلنا السيد باتريك بولونجي بصفته مسؤول الإرث الثقافي للغرفة، بملامح رجل المتوسط وخصائصه، جال بنا أولا في أنحاء بناية غرفة التجارة والصناعة لمرسيليا، وقال أنها أقدم غرفة تجارة في العالم تأسست عام 1599 ، فأصبحت معلما فرنسيا في مارسيليا ، وهي حاليا منشغلة بالتحضير لتظاهرة " مارسيليا عاصمة الثقافة الأوروبية 2013 ". في هذه الغرفة ، الجزائر حاضرة دائما ، من خلال اسمها المنقوش في أعلى وسط الجدار المقابل لبوابة المدخل. يقول باتريك بولونجي هناك علاقات استثنائية بين الجزائر ومارسيليا. وفعلا فمن مارسيليا انطلقت البواخر الأولى للحملة الإستعمارية، ومن مارسيليا كانت البواخر التجارية تنطلق نحو الجزائر في العهد العثماني، وإلى مارسيليا وصلت الدفعات الأولى للهجرة الجزائرية لما وراء البحار في الحقبة الإستعمارية بدء منم عام 1906 ، وفيها بنى المهاجرون الأوائل مسجدا يمارسون فيه الشعائر الإسلامية حفاظا على خصوصيتهم الثقافية والحضارية. في أنحاء غرفة التجارة والصناعة لمارسيليا هناك معرض دائم لمجسمات السفن التي كانت تبحر ذهابا وإيابا من مرسيليا إلى الجزائر، محملة بالبضائع والبشر والحيوانات أيضا. منها " سفينة بوردو " التي تعرف بكونها آخر سفينة غادرت الجزائر غداة الإستقلال نحو فرنسا وعلى متنها مئات الأقدام السوداء ، ويطلق على تلك السفينة " سفينة آخر عودة " أو " العودة الأخيرة. وبعد التجوال في أنحاء الغرفة، جاء دور العرض التاريخي الذي قدمه لنا باتريك بولونجي الذي يعد مختصا في التاريخ أيضا، حينها اكتشفنا أن جزءا من أرشيف الجزائر يوجد هنا .. في غرفة التجارة والصناعة في مارسيليا. فهناك نجد المعاهدات التي وقعتها فرنسا مع العثمانيين في الفترة 1597 – 1770 ،ومعاهدات داي الجزائر 1662 – 1790 ، و " مفاوضات الإستسلام " ، وغيرها من الوثائق. وأوضح باتريك بولونجي أن غرفة التجارة والصناعة لمارسيليا لعبت دورا كبيرا في المجال الدبلوماسي، حتى أن تكاليف إقامة وتنقل سفير فرنسا في القسطنطينية كانت تتكفل بها الغرفة. وأضاف باتريك بولونجي أن قنصلية فرنسا في الجزائر لعبت بدورها دورا كبيرا في تطوير التجارة بين البلدين، وتحتفظ غرفة التجارة والصناعة بأرشيف هام لهذه القنصلية. إلى جانب وثائق تتضمن البضائع المصدرة من مارسيليا إلى الجزائر خلال عام 1789 ، ووثائق أخرى متنوعة ومتعددة، منها ملصقات إعلانية ووثائق حول الخمور التي كانت تصدر من الجزائرلفرنسا. كذلك تحدث باتريك بولونجي عن إقامة الأمير عبد القادر في فرنسا، ودعا الباحثين الجزائريين إلى زيارتها والإطلاع عليها. وبعد انتهاء باتريك بولونجي من عرضه حول العلاقات الجزائرية الفرنسية عبر مارسيليا، قدم أحد الأعضاء المنتخبين في الغرفة عرضا حول مارسيليا ومكانتها في حوض المتوسط، وأهميتها الإقتصادية والتجارية بين الضفتين. مارسيليا لديها شبكة لتطوير التعاون الإقتصادي في حوض المتوسط، وهي تنظم باستمرار تظاهرات لتطوير هذا التعاون في مختلف القطاعات، وتشارك غرفة التجارة والصناعة في عدة تظاهرات واجتماعات خارج فرنسا بما فيها الجزائر. ثم أوضح أن هناك أزيد من 270 جمعية ترغب في تطوير علاقات التعاون الثقافي والإقتصادي مع الجزائر وفي حوض المتوسط. إن الإهتمام بالمتوسط مرده إلى كون مارسيليا مدينة متوسطية، وهي بوابة باريس إلى الضفة الجنوبية للبحر المتوسط، وبوابتها البحرية نحو العديد من البلدان الأوروبية. وليس ذلك فحسب، بل لأن 30 بالمئة من التجارة الدولية تمر عبر المتوسط، ولأن الفجوة الإقتصادية بين الشمال والجنوب توسعت من 1 إلى 10 من الناتج الوطني الخام لكل ساكن.، وهي فجوة مخيفة بالنسبة للجنوب ومقلقة بالنسبة للشمال، وبسبب الهجرة نحو أوروبا التي تتم عبر البحر، ولأن حوض المتوسط هو منطقة المواد الأولية، منها ثروات نادرة كالبترول والغاز والثروة البشرية، وأن منطقة المتوسط تحصي نحو 430 مليون ساكن ، وتنتج 15 بالمئة من الثروة العالمية سنويا، فضلا عن كون الجنوب سوق تجارية هامة لتصريف البضائع والخدمات. لكن ماذا يمكن لمارسيليا أن تقدمه للجزائر وتحديدا عبر غرفتها للتجارة والصناعة ؟ يرد على هذا السؤال عدد من أعضاء الغرفة ، وعدد من الصحافيين الذين التقيناهم هناك من وكالة الأنباء الفرنسية وفرانس 2 وصحف محلية عديدة أخرى يقولهم أن الجزائر لا تحتاج إلى المال لكنها بحاجة إلى تمويل المؤسسات الدولية وبحاجة أيضا إلى تكوين الكوادر البشرية ، ومارسيليا بموقعها ومكانتها بإمكانها أن تلعب دور البوابة للجزائر، لأنها ترغب في أن تلعب دورا " أورو – متوسطيا " متناميا، وخاصة من خلال الإتحاد من أجل المتوسط. وأوضحوا أن 60 بالمئة من الإهتمامات في غرفة التجارة والصناعة لمارسيليا وجهت للجزائر. واستطرد محدثونا يعددون " الحسنات " الإقتصادية والتجارية لمارسيليا، فهي قوة انتاجية واستهلاكية بنحو 2 مليون ساكن، وتقع فيها نحو 50 بالمئة من شركات الجهات القريبة منها، وبها 150 ألف مؤسسة منها 80 بالمئة في قطاع الخدمات أو ما يعرف باسم القطاع الثالث، وأزيد من 700 شركة أجنبية، ولديها هياكل قاعدية دولية مثل الميناء والمطار ، والتي جي في والطرق السريعة، ومينائها يعتبر أول ميناء في فرنسا وأوروبا ، بنحو 2 مليون مسافر ، ويقدر حجم نقل البضائع عبره بنحو 96 مليون طن . من جهة أخرى تعتبر مارسيليا أول منتج للطائرات العمودية في العالم. ويفتخر المارسيليون باعتبار مدينتهم تحتضن نحو 10 جاليات التي ساهمت في الإثراء الثقافي لمارسيليا ، وبها نحو 12 ألف طالب أجنبي، من أصل 100 ألف طالب في جامعات مارسيليا. وخلال حديثنا استفسرنا كثير من الصحفيين عن واقع الحريات الصحفية في الجزائر، ورغم اجتهادي في الشرح المنصف للصحافة الجزائرية من جهة والحكومة من جهة أخرى، فقد اختتمت صحفية الجلسة بقولها : " إذن لديكم الحرية في أن تقولوا ماذا حدث، لكن ليست لديكم الحرية في كشف من تسبب في الحدث، وأنتم من الطراز الإعلامي الذي يقول : أسفر الحادث عن وفاة ثلاثة أشخاص ، إثنان منهم في حالة خطيرة " .. وعلى قهقهات الجميع، كانت الساعة تشير إلى موعد انطلاق التي جي في نحو باريس .. حيث لدينا مواعيد مع مجموعة من الشخصيات الثقافية الفرانكو – جزائرية الفاعلة.