وقد جاء العدوان الأخير كمحاولة يائسة لكسر معنويات الفلسطيني الحامل لكل هذا التراث وكل هذه القيم، لأن الطرف الآخر يدرك أن الثقافة هي أهم مقومات البقاء الثابتة، وما عداها زائل متحول• إن هذا التزامن بين حدث ذي طبيعة ثقافية هو احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية، والعدوان على غزة الذي هو هجوم عسكري تدميري في ظاهره يستدعي التأمل، ويطرح أكثر من تساؤل عن الأسباب الكامنة والخفية التي يبطنها هذا التزامن. ولا يمكن لعاقل أن يصدق بأن أحداثا من هذا النوع يمكن إرجاعها إلى قرارات ارتجالية وبريئة، ولا تستند إلى أبعاد استراتيجية عميقة، تطال حتى البعد الثقافي الحضاري الذي أصبح اليوم هو محور الصراع ولب المواجهة بين ثقافات تتشبث بالبقاء والوجود، وثقافات تريد الهيمنة وبسط منظومتها الفكرية على كل العالم • قد تبدو زاوية هذه المقاربة ساذجة للكثير من الناس الذين انساقوا وراء التفسيرات الواهية والمضللة، لأننا تعودنا دائما على التحليلات السياسية الجاهزة التي تفسر السياسي بالعودة إلى المقدمات السياسية، أي تفسر الماء بالماء دون أن تذهب أكثر من ذلك، وتتعمق في البحث عن أسباب أكثر إقناعا قد لا تكون بالضرورة من جنس الفعل، ويخطئ من يعتقد أن الجزاء ورد الفعل يكون دائما من نفس طبيعة العمل• وهو ما يذكرنا بحكاية ذالك الذئب الذي كان يشرب من منبع النهر في أعلى مصبه الجبل، ولكنه حينما رأى الخروف في أسفل الجبل يشرب من النهر انقض عليه، وحين سأله الذئب البريء عن الذنب الذي أقترفه قال له إنك كنت تلوث عليّ الماء وأنا أشرب من النهر• وهو نفس ما قامت به إسرائيل في عدوانها على غزة متهمة الغزاويين العزل والأبرياء بتهديد أمنها، وهي الأعتى والأقوى في المنطقة كلها، دون أن تعلن عن الأسباب الجوهرية لهمجيتها، والتي هي بالتأكيد تلك الفتوحات الكبيرة والانتصارات التي حققتها الثقافة الفلسطينية على يد محمود درويش وإدوارد سعيد ومن على شاكلتهما •• وقد تكون أفاقت في لحظة مواجهة مع الحقيقة بأن القدس قلب الأمة النابض، وعاصمة فلسطين رمزيا على الأقل، قادرة أكثر من ذلك على أن تكون عاصمة الثقافة العربية، حتى بعد رحيل ناجي العلي ودرويش وإدوارد سعيد•••، وقد تكون قادرة على تحقيق المعجزة وتجمع حولها قلوب العرب الذين فرقتهم السياسة• احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية، هذا الحدث الكبير، يضعنا جميعا كشعراء وكتاب ومثقفين، أمام مسؤولية الالتفاف حوله والمساهمة فيه بما أوتينا من جهد ، كنوع من الدعم لا يقل أهمية عن أشكال الدعم الأخرى، في هذه المواجهة الحضارية التي تعنينا جميعا كعرب حيثما وجدنا•