بدلا من أن يستغل العرب رحيل إدارة بوش وتولي إدارة جديدة، تسعى جديا لخلق مسافة بينها وبين إسرائيل إذا بهم يقدمون تنازلا جديدا أفصح عنه جورج متشل مؤخراً حين كشف النقاب في حديث صحافي عن أن العرب وافقوا في الغرف المغلقة على اتخاذ إجراءات نحو التطبيع مع إسرائيل• والحقيقة أن ما وافق عليه العرب يقلب المبادرة العربية على رأسها، ويقدم خدمة لإسرائيل دون أي مقابل• فإسرائيل كانت قد قامت في عهد بوش بانتزاع مجموعة من المواقف الأميركية الكارثية، سواء بخصوص الحدود أو المستوطنات أو القدس• وكان المفترض أن يسعى العرب بمجرد رحيل تلك الإدارة من أجل التوصل مع الإدارة الجديدة لتفاهمات من نوع مختلف• ففيما يتعلق بالحدود والمستوطنات كانت إدارة بوش قد اخترعت معايير جديدة باسم الواقعية• وفيما يتعلق بالحدود، تبنى بوش موقفا يقوم على فكرة لا علاقة لها بالقانون الدولي، مؤداها أنه لا يمكن واقعيا لإسرائيل العودة للحدود المنصوص عليها في قرار مجلس الأمن 242 لأنها حدود لم يعد من الممكن لإسرائيل الدفاع عنها• وعليه فإن إسرائيل ستنسحب إلى حدود يمكنها الدفاع عنها• والشيء نفسه كان يصدق على المستوطنات، إذ قال بوش إن الكتل الاستيطانية التي بنتها إسرائيل في الأراضي المحتلة قد صارت حقيقة واقعة ومن ثم فإن الحل هو تعويض الفلسطينيين عن تلك الأراضي، بما في ذلك تلك التي بنى عليها الإسرائيليون في القدسالشرقية، وكأنه من الممكن تعويض البريطانيين عن العاصمة لندن مثلا أو الإيطاليين عن روما! ويرتبط ذلك أيضا بحق العودة الذي صار مرتبطا هو الآخر بإصرار إسرائيل على يهودية الدولة• وطوال تلك الأعوام الثمانية التي قضاها بوش في الحكم ظلت المبادرة العربية حبيسة الأدراج تعاني التجاهل الأميركي والإسرائيلي على السواء• لكن إدارة بوش رحلت منذ شهور سبعة وحلت محلها إدارة اعتبرت حل القضية الفلسطينية مصلحة حيوية أميركية• ومن ثم كان المطلوب تحركا عربيا سريعا لانتزاع مواقف أميركية تفكك تلك المنظومة البائسة التي أرستها إدارة بوش خاصة وأن العرب كانوا قد قدموا قبل سنوات مبادرة مهمة تمنح إسرائيل علاقات طبيعية مع محيطها الإقليمي إذا ما انسحبت من كل الأراضي العربية التي احتلتها في .1967 والمبادرة العربية التي تقوم في منطقها وجوهرها على حل الدولتين تمثل إنقاذا لإسرائيل في حقيقة الأمر• فالوضع السكاني، ليس فقط في الأرض المحتلة بل وفى إسرائيل ذاتها، يمثل تهديدا حقيقيا للمشروع الصهيوني• فمعدل النمو السكاني للعرب أعلى بكثير من معدل النمو اليهودي، الأمر الذي يعني أنه مع مرور الوقت سيتحول اليهود لأقلية فتكون تلك نهاية يهودية الدولة• بعبارة أخرى، فإن عامل الوقت هو العدو الأول لإسرائيل وحل الدولتين يمثل مخرجا لحل معضلتها• ومن ثم كان على العرب استثمار المأزق الإسرائيلي ووجود إدارة أميركية تعي ذلك المأزق وتسعى لإنقاذ إسرائيل من نفسها عبر الحصول على مكاسب لا عبر تقديم المزيد من التنازلات• لكن الواضح أن أيا من ذلك لم يحدث• بل أكثر من ذلك، حدث العكس وهو ما كشف عنه حوار صحافي أجراه المبعوث الأميركي الخاص للشرق الأوسط! ففي مقابلة صحافية الأسبوع الماضي، نفى جورج متشل أن يكون العرب قد رفضوا مطلب إدارة أوباما بخصوص اتخاذ خطوات نحو التطبيع الفوري مع إسرائيل• وأضاف لقد حصلنا عموما على استجابات جيدة للغاية ورغبة في التحرك على هذا الصعيد• وقد ذكرت النيويورك تايمز لاحقا أن الخطوات التي طالبت بها أميركا العرب تتراوح بين فتح مكاتب تجارية في تل أبيب والسماح لشركة العال الإسرائيلية باستخدام المجال الجوي للدول العربية في رحلاتها إلى آسيا• وما قاله متشل يعني إن العرب وافقوا على التطبيع مقابل وقف الاستيطان، أي أنهم حولوا المبادرة العربية من صيغة ''الأرض مقابل السلام'' إلى مجرد ''وقف الاستيطان مقابل السلام''! بل أكثر من ذلك، وافقوا على التطبيع مقابل وقف للاستيطان لم يكن الأميركيون والإسرائيليون، قد اتفقوا بعد على مضمونه! فالقاصي والداني يعرف أن هناك مفاوضات بين أميركا وإسرائيل في هذا الخصوص ويتردد الحديث عن وقف مؤقت للاستيطان يريده الأميركيون لمدة عام بينما يريده الإسرائيليون لمدة ستة أشهر فقط• ويريد الإسرائيليون مقابل الموافقة على الوقف الموقت للاستيطان الحصول على موافقة أميركية باستكمال بناء 2500 وحدة سكنية تم التعاقد على بنائها فضلا عن وعد أميركي بالحصول على تطمينات باستكمال الاستيطان ما بعد الوقف المؤقت• بعبارة أخرى، قلص العرب المبادرة العربية من الأرض مقابل السلام إلى وقف الاستيطان مقابل السلام• ليس هذا فقط بل فعلوا ذلك حتى قبل أن يعرفوا شروط وقف الاستيطان هذا الذي سيتفق عليه الإسرائيليون والأميركيون! يعني بالعربي الفصيح لم يوافق العرب على التطبيع مقابل الانسحاب، ولا حتى وافقوا على التطبيع مقابل إزالة المستوطنات التي بنيت على الأرض المحتلة بشكل غير قانوني، ولا هم وافقوا على التطبيع مقابل وقف الاستيطان وإنما وافقوا على التطبيع مقابل وقف مؤقت للاستيطان يستأنف بعده الإسرائيليون بالسلامة البناء على الأرض الفلسطينية! وتلك لم تقل أبدا انهم مقابل كل ذلك طالبوا بأي شيء يتعلق بالحدود ولا القدس ولا عودة اللاجئين• وإذا كانت تلك هي طبيعة التفاعل العربي مع الإدارة الأميركية خلال شهورها السبعة الأولى فالمؤكد أنه يمثل تشجيعا لأوباما أن يطلب المزيد من التنازلات العربية في إطار مبادرته للشرق الأوسط المقرر الإعلان عنها في الخريف. بقلم الكاتبة المصرية د.منار الشوربجي عن موقع البيان