نامي حبيبتي عليك السلام نامي يا أمي هنيئة في رقدتك الأبدية، فقد كنت ترددين طول ليالي المرض القاسية: ''يا ربي عالي الدرجات، يا ربي ليك الهربة، سهّل لي يوم الممات، وارحمني في ذيك الرقدة'' اليوم يا أمي تمر أربعون يوما على الفراق، تمر أربعون يوما على رحيلك إلى عالم الخلود· قبّلتك يا أمي قبلتي الأخيرة، قبل أن يغلق عليك التابوت وترفعين على الأكتاف إلى الدار الدائمة· كانت باردة لكنها كانت مزيجا بين الحنظل والسكر، وزادك ثوبك الأبيض جمالا ووقارا· فقد كنت تحبين الأبيض، ولم تعجبك الفندورة السوداء المزركشة بأزهار الليلك، التي اشتريتها لك لما زرتك أياما قبل وفاتك مع أنها كانت لائقة عليك، وقلت ''أنا نحب الألوان الفاتحة، أحب الأبيض فقط''· كيف أرويك يا أمي، وقد خانتني الحروف؟ فلم أقو على الكتابة إليك· كيف أرثيك يا حبيبتي، وقد أخذ رحيلك مني كل شيء.. القوة والشجاعة، ووجدتني أسقط في بحر الذكريات، أبحث في تفاصيل طفولتي عن كل ما كان يصنع الفرح، لقد كنت كبيرة كبر المحن والمسؤوليات التي تحملتيها بكل قوة وشجاعة، وكنت جميلة، كنت جميلة يا أمي، يا أيتها الشاوية الفخورة بهويتك· كنت أجمل النساء، مع أن وجهك لم تلوثه المساحيق، كنت صارمة في كل شيء، جدية في كل ما تقومين به من أعمال، صبورة، وفحلة وطيبة· هذا الخريف يا أمي هذا الخريف الذي أمقته من أجلك لكثرة ما كان دائما يعذبك، فقد كان لسنوات السياط التي تجلدك، من أين بكل الكتب والأدوات والمصاريف؟ هذا الخريف يا أمي، وهذا المطر، وأنت هناك تحت الثرى، وأنا هنا أصارع وحدي المحن، عارية من دعواتك التي كانت زاد يومي· أمي، يا ظلي العالي، يا سندي، يا جداري الأخير، كيف أرثيك يا أمي، وكلما فتحت صفحات الماضي مزقني الألم· كيف أرثي يديك التي رحلت مخضبة بالحناء التي تحبينها، وكانت ''تواتيك''؟ كيف أرثي يديك التي اشتقت تقبيلها، وهي تتماثل اليوم أمامي، تعجن الكسرى، وتفتل الكسكسي، وتنسج الصوف كل شتاء· بسببها عشقت قصيدة محمود درويش ''أحنّ إلى خبز أمي وقهوة أمي ولمسة أمي''، وكانت تبكيني في كل مرة، خوفا من يوم فراقك الأبدي· وأنا بدوري أحن إليك يا أمي، إلى مجالستك· جالستك في المستشفى في لياليك الأخيرة، وكنت تسألين عن كل شيء، على ثقافات الشعوب الأخرى، وعن مآسي فلسطين، وعن الجزائر التي ضاقت بأبنائها ''الله يعدل لكم أحوال البلاد باش ترتاحوا فيها''، كنت تقولين وأنت على بعد ساعات من الموت· كيف سأرثي ابتسامتك المضيئة؟ كيف سأرثي طيبتك؟ فقد كنت أم بنات وأبناء كل العائلة، كناينهم وأحفادهم، كنت أم الجميع، هكذا كانت تبكيك لالا شريفة ''يا ميمة بناتي''، ولم يكن يحلو فرح أو خطوبة في العائلة إلا إذا حضرت أنت، ولا تزف إحدانا بشرى فرح قبل أن تسمعك وتسمع تهانيك· كيف سأروي فرحتك كلما دخلت عليك آتية من بعيد وأنت تهتفين بأعلى صوتك حتى أيام المرض ''يا سعدي بنيتي المليحة جات''· ما زال صدى فرحة لقائنا الأخير في المستشفى يرن في أذني وكأنه آت من بعيد· كنا نقول لك دائما يا أمي، ندللك ونعوضك أضعاف ما قاسيته مئات المرات، نشهيك ونلبسك أجمل الحلل، حتى لا نبكيك ولا نحزن لما تودعين الدنيا، لكننا كنا نضحك على أنفسنا· فموتك علمني معنى الألم· وفاتك يا أمي سرقت مني الفرح والطمأنينة، سلبتني الطموح، والرغبة في النجاح، واكتشفت أنني كنت أسعى للنجاح من أجلك، كنت دائما حاضرة في حياتي وفي لا شعوري· وأنا أقرأ أو أكتب، أو حتى أطبخ وأعلّم أطفالي أساليب الحياة، ولم أنتبه لهذا الحضور إلا عندما اندثر· كنت ملهمتي في كل شيء، ولم أكتشف ذلك إلا بعد أن ملأ الفراغ مكانك ومكانتك·· ما زلت يا حبيبتي أتذكر مشيتك السريعة وخطاك الثابتة تحت ملاءتك السوداء وعجارك الأبيض، أين الملاءة والعجار يا أمي؟ كنت أعرفك من بين آلاف النساء ومن بعيد من وقفتك الواثقة· أيتها الشاوية الجميلة، ما زلت أرى صورتك، وأنت تجلسين أمامي تقلبين أوراق الكتب، وتتنهدين، لو ما زلت صغيرة لالتحقت بمدارس محو الأمية لأقرأ الكتب· كنت دائما تقولين، فحبك للعلم لم يضاهيه إلا حبك لنا أبناؤك وبناتك الستة· أتذكر كيف كنت تبكي وأنت تروين لي زيارتك إلى البقاع المقدسة واندهشت لما وجدت النساء العربيات في سنك كلهن متعلمات يقرؤون القرآن، إلا أنت، فكن تظنين أن الأمية هي محنة كل النساء العربيات في سنك· أيتها المكافحة، يا من نجحت في تحدي كل الصعاب، وأوصلت كل أبنائك إلى بر الأمان، يكفيك فخرا أن كبرى بناتك كانت أولى بنات العائلة تصل إلى الجامعة، يكفيك فخرا أنك أنجبت الطبيبة والصحفية والمحاسب والأستاذة والحرفي الحاذق، وكل بناتك أمهات ناجحات، نعيش بكسب الحلال وعلى المثل التي زرعتها في قلوبنا، لم تحلمي لنا بعرسان ولا بجهاز، لم تشتري لنا الحلي مثلما تفعل الأمهات، كان كل همك أن ندرس وننجح وندخل الجامعات وأن نكون في القمة· فالعلم هو السلاح الحقيقي والشهادات هي الضمان.. هكذا كنت دائما ترددين· كنت تحثيننا دائما على الخير وعلى مساعدة كل من يلجأ إلينا طلبا للمعرفة، تقولين لنا بطيبتك المعهودة الممزوجة أحيانا بسذاجة الريفيات، ''ما تبخلوش بالعلم، باش هكذا يفتح عليكم ربي''، وهل أسمى من أن يحث الإنسان على نشر العلم بأمانة؟ كان للعلم مكانة هامة في حياتك رغم كونك أمية، فلا فرحة كانت تضاهي فرحتك بأخبار النجاح في الامتحانات· وكنت تحملين هم امتحاناتنا من بداية السنة الدراسية· أتذكر كيف بكيت وفاة بومدين بلوعة وحرارة، وقالت لك قريبتك ''علاش تبكي عليه ما عطاكش حتى سكنى'' وكنا نعاني وقتها أزمة السكن، لكنك أجبتيها بكلمات ما زالت محفورة في ذاكرتي لأن الواقع أثبتها:''ما نبكيش بومدين، نبكي على عز أولادي ومستقبلهم، نبكي على من يفتح الجامعات وعلى من رفع راس أولادنا، وضمن لهم الأمان''· كيف أنساك يا أمي، يا زعرة الجميلة، كيف أنسى عذاب أيامك الأخيرة وأنا أمضي معك الليالي في المستشفى وأراك تحرمين لذة النوم، لكنك كنت تكابرين، ولم تفقدي الأمل في الشفاء· كنت تعدين نفسك للرحيل، ترفضين أن نطفئ النور ليلا وتقولين:''إنني ذاهبة إلى الظلام فلا تطفئوا عني النور''، وهكذا طلبت من آسيا صغرى بناتك أن تشرع النوافذ لما كنت تحتضرين وملأت عينيك نورا ثم نمت نومتك الأبدية محاطة بكل من تحبين· يرحمك الله يا أمي، يا دلالة للخير والحب والتسامح، يرحمك فقد كنت رحمة لنا جميعا وخيرة مع كل من عرفك وجاورك، وقد جاءوا كلهم لوداعك· شكرا أمي على شعلة حب الخير التي زرعتها ونمت في قلوبنا، شكرا وألف شكر· عن بناتك وأبنائك وجميع من فجعوا لفراقك