شهدت الجزائر ''انتخابات التجديد النصفيّ لأعضاء مجلس الأمة'' في 29 من شهر ديسمبر من سنة 2009 المنقضية، والتي تبارى للفوز فيها مرشّحون عن أربعة أحزب سياسية بالإضافة إلى المترشحين الأحرار عبر 48 ولاية، وعرفت إقبال حوالي 16 ألف منتخب من جميع المجالس البلدية والولائية عبر الوطن على التصويت، لاختيار نصف أعضاء المجلس ال ,96 المنتخبين عن طريق الاقتراع العام غير المباشر· وهي الانتخابات التي لم تأت بنتائج مفاجئة ولم تؤدّي إلى تغيير تضاريس الخارطة الحزبية في المسرح السياسيّ الوطنيّ· غير أنها تعتبر بالنسبة لمجتمع الباحثين فرصة لدراسة تطورات الساحة السياسية الجزائرية وإمكانية تحوّلها مع اقتراب موعد الانتخابات التشريعية السادسة في تاريخ الجزائر· وقد تمكّنت القوى السياسية التقليدية في جبهة الموالاة من إحكام سيطرتها في هذه الانتخابات على الغرفة العليا للهيئة التشريعية بالتوازي مع سيطرتها على السلطة التنفيذية، وفازت هذه الأحزاب بالانتخابات بعد أن ظلّت متربعة لأكثر من عقد - كما عهدناها - على سلّم المراتب الثلاث الأولى في غرفتي البرلمان، وحصلت جبهة التحرير الوطني على: 23 مقعدا، وحصل حزب التجمع الوطني الديمقراطي على: 20 مقعدا، في حين لم يتجاوز نصيب حركة مجتمع السلم مقعدين اثنين، ما جعلها تتهم حليفيها في السلطة باستخدام ''المال السياسي'' لشراء أصوات الناخبين، في مشهد سياسيّ يبرز التهافت الواضح على مزايا مقاعد مجلس الأمة ونزعة المتنافسين نحو استخدام كافة الوسائل المتاحة لهم للحصول على مقعد في مجلس الغرفة العليا، ما دامت البرامج الانتخابية لا تتضمن أيّة ميزة تنافسيّة، ومضامينها تتجنّب بوضوح الإجابة على مطالب الجماهير الملحة منها والآجلة على حدّ سواء، وانتقلت الطبقة السياسية بدلا عن ذلك إلى ترقّب إعلان رئيس الجمهورية تعيينات الثلث الرئاسيّ البالغة 24 عضوا، دون إجراء محاسبة موضوعية لحصيلة انتخابات مجلس الأمة بعيدا عن معيار الربح والخسارة، أو دراسة موقف الجماهير الجزائرية من النتائج المعلنة· انتخابات مجلس الأمة التي تحوّلت إلى ''مناسبة لعقد الصفقات السياسية'' في ظلّ معطيات الساحة السياسية الراهنة، جعلت الغرفة العليا في البرلمان لا تختلف عن الغرفة السفلى من ناحية ''شرعيتها التمثيلية''، بعد أن شهدت انتخابات الغرفة السفلى سنة 2007 نسبة عزوف سياسيّ كارثية للناخبين بأكثر من الثلثين، حين شارك في تلك الانتخابات التشريعية 06 ملايين ناخب من بين 20 مليونا، ودفعت تلك النتائج المفاجئة الرئيس بوتفليقة نفسه إلى اللجوء إلى طرح تعديل الدستور في نوفمبر 2008 عبر الاستفتاء على مستوى البرلمان دون الاستفتاء الشعبيّ خشية عرقلة مساعيه· وفي انتخابات مجلس الأمة الأخيرة قررت 05 تشكيلات سياسية فقط من مجمل الأحزاب والتشكيلات الوطنية خوض غمار المنافسة، وهي نسبة مقاطعة لا تقلّ أهمية عن تلك التي شهدتها الانتخابات التشريعية الخامسة سنة ,2007 ونتج عن هذه المقاطعة - غير المسبوقة - تحوّل المواعيد الانتخابية في الجزائر إلى مناسبات اعتيادية تقابل ''باللامبالاة الشعبية المقصودة L'apathie des électeurs - The voter apathy بعد أن كانت تلك المواعيد الانتخابية بمثابة فرص لإحداث التغيير ولو كان بخطى السلحفاة· هل بقي معنى لمفهوم ''حزب الأغلبية''؟ أنتجت الانتخابات الأخيرة بناء على ما سبقها من أحداث سياسية ''تبلّدا في الضمير الجمعيّ العام'' للأفراد، الذين لم يعودوا قادرين حتى على نقد نتائجها المعروفة مسبقا، وكأنّ ''الواقع'' و''المأمول'' أقسما على عدم اللقاء سياسيا في البلاد، لأنّ ''التغيير'' أصبح من ''المحرّمات''، بعد أن تجاوز مرحلة كونه من ''المكروهات''· حتى عادت المقاطعة الاعتيادية للأحزاب المعارضة لتلك الانتخابات، كالأفافاس FFS حزب جبهة القوى الاشتراكية والأرسيدي RCD حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، أكثر الأحداث استقطابا للجماهير القليلة التي قرّرت متابعة هذا الحدث السياسيّ الهام من هذه الزاوية الضيقة، ولم يعد هنالك ''معنى للمعنى نفسه'' في ساحتنا السياسية المغلقة بشدّة على ساسة أحزاب الموالاة وحدهم، فها هو حزب الأغلبية الأفلان FLN يحصد النجاح تلو الآخر طوال أكثر من عقد، غير أنّه ممنوع - برضاه- من التمتّع حتى بامتيازات المرتبة الأولى في الانتخابات وحيازته للأغلبية في مختلف المجالس المنتخبة الوطنية والولائية والبلدية، إذ قاد الحكومة في معظم فترة حكم الرئيس بوتفليقة للجزائر السيد أحمد أويحيى أمين عام حزب التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، كما أنّ الجبهة وجدت نفسها لا تساوي ''الكلّ في الكلّ'' في برنامج الرئيس بوتفليقة بعيدا عن التحالف مع حركة مجتمع السلم والتجمع الوطني الديمقراطيّ، لكونها أحد أضلاع هذا المثلث السلطويّ ما بقي الرئيس بوتفليقة في سدّة الحكم· وقد كلّف التنازل الشكليّ لحزب الأغلبية عن أدواره الاعتيادية في الظروف العاديّة، كلّفه مكانته الجماهيرية كحزب رياديّ حامل لمشروع وطنيّ يجسّد آمال غالبية الشعب الذي وضع ثقته في جبهة التحرير الوطني· ''مثلث التحالف الرئاسي'' وجد نفسه هو الآخر لا يساوي شيئا أيضا دون الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، بعدما أثبتت تجربة منافسة كلّ من الأمين العام الأسبق لحزب جبهة التحرير السيّد علي بن فليس والأمين العام الحالي لحزب التجمع أويحيى، للرئيس بوتفليقة، أنّه لن يكون بإمكاناهما الاحتفاظ بامتيازات الريادة دون قبول قاعدة ''التوظيف السياسيّ''، وقد برز ذلك بوضوح في تصريح السيد عبد الرحمان بلعيّاط، القياديّ المكلف بالتكوين السياسيّ في الجبهة، بأنّ: ''حزب جبهة التحرير الوطنيّ لن يعود إلى تجربة المعارضة من جديد مهما كلّفه الأمر''، ولو كان ذلك على حساب إرادة الجماهير الراغبة في لمس استقلالية القرار الجبهويّ· الوصول إلى الغرفة العليا··· أي طريق وأية وسيلة؟ إنّ التساؤل المشروع حول تطوّر آليات الوصول إلى البرلمان في بلادنا في عقدنا الثاني من أزمتنا الوطنية، يؤكّد ودون شكّ - لظاهره الملتبس - أنّ الوصول إلى الغرفة العليا -على سبيل المثال لا الحصر- أصبح يعبّر اليوم عن تخلّف سياسيّ واضح لدى بعض الطّامحين للوصول إلى البرلمان، وخصوصا ما سمعناه وما نسمعه كملاحظين إلى حدّ الآن، عن التنابز الحزبيّ ومهازل وكوارث البزنسة وشراء الذمم وعقد الصفقات المشبوهة والممارسات المنافية لقيم النضال المؤسس على الأخلاقيات السياسية····، ما يجعلنا نتبلّد كمراقبين كما حدث للناخبين البسطاء، لأنّ هذه الأساليب تحوّلت إلى أمور عادية وطبيعية في مجتمعنا، وهي الظواهر التي اعترف المناضل الجبهويّ المكلّف بالإعلام والاتصال، السيد السعيد بوحجة، بوجودها، معتبرا أنّها من أهمّ النقاط المدرجة للنقاش ضمن جدول أعمال المؤتمر التاسع للجبهة· غير أنّ جبهة التحرير الوطنيّ لن تجد جوابا مقنعا عن التساؤل حول الصلاحيات ''الشكلية'' لمجلس الأمة، والاستفسار عن رفض المعارضة دور الغرفة العليا للبرلمان في تعطيل أيّة تطورات على مستوى البرلمان، من خلال التحكّم في أيّة تحولات مفاجئة أو انقلابات قانونية قد تحدث على مستوى المجلس الشعبيّ الوطنيّ· كلّ ذلك يؤكّد على أنّ علوّ سلطة الهيئة التنفيذية في بلادنا لم يعد يتعلّق بدنوّ دور ومكانة الهيئة التشريعية فحسب، بل يتعلّق بقتل العملية السياسية في البلاد من خلال دور جبهة الموالاة، واعتماد لغة ''حوار الطرشان'' مع المعارضة - إذا كان هنالك حوار بالأساس مع المعارضة -، ما جعل الأفافاس يعلن مقاطعته لهذه الانتخابات الأخيرة في مؤتمر مجلسها الوطنيّ الذي عقد في ولاية غرداية، كخطوة رمزية لتذكير السلطة التنفيذية بواجبها نحو ضمان الوحدة الوطنية وحلّ ''مشكلة بريّان الطائفية'' العاجلة، وهي تهدّد بالانفجار من جديد في أيّة لحظة، دون سعيّ من وزارة الداخلية لإيجاد حلول ناجعة لها، ولا مكاشفة واضحة تحلّ الأزمة القائمة إلى الأبد كنموذج واضح على فشل الحكومة عن أداء واجبها تجاه الشعب الجزائريّ، إذ لا بدّ من التأكيد أنّ سنة 2009 لم تكن سنة انتصارات كما يحاول البعض الترويج لذلك· لقد شهدت العديد من ولايات الوطن انفجارات اجتماعية تتمحور دائما حول مطالب السكن والشغل ورفع القدرة الشرائية للمواطن لا عبر رفع الأجور، بل عن طريق التحكم الناجع والأمثل والنهائيّ في أسعار المواد الاستهلاكية وعلى رأسها المواد الغذائية، ولا أدلّ على ذلك، ما شهده حيّ ديار الشمس العام المنصرم، وقد وصل صداه إلى خارج الجزائر، بعد أن طالب مواطنو هذا الحيّ الفقير بعدم تهميشهم وتلبية مطالبهم المشروعة كبقية مناطق الوطن التي نالت جزءا من نصيبها في التنمية· انتخابات مجلس الأمة تحالف قوى الموالاة··· بين الحقيقة والوهم شهدت انتخابات مجلس الأمة الأخيرة تحالف السيدة لويزة حنون، زعيمة حزب العمال، مع حزب التجمع الوطنيّ الديمقراطيّ، وهو ما اعتبر - حسب رئيس حركة حمس - ضربة قاصمة لأركان التحالف الرئاسي الذي اتفق أعضاؤه في السابق على إعطاء الأولوية للتحالف وليس خارجه في المواعيد الانتخابية الكبرى، غير أنّ قيادة حمس تداركت موقفها بالتراجع عمّا أبدته من مواقف تجاه حزب التجمّع، لتقول إنّها تمثّل دائما أحد أبرز نماذج الإسلام السياسيّ التي نجحت في الوصول إلى التحكّم الجزئيّ في أحد دواليب السلطة التنفيذية، عبر براغماتيتها السياسية، التي لم تعقها - حسب قول رئيس حركة حمس - سوى المقاطعة الشعبية، حيث قال مخاطبا الشعب الجزائري من على شاشة ''الجزيرة مباشر'': ''لو أعطيتنا أيها الناخب صوتك بدل اختيارك المكوث في البيت لشاهدت كيف يحدث التغيير''، فهل يعني ذلك أنّ حركة ''حمس الجزائرية'' كانت ستقود الجزائر نحو التغيير إذا ما نالت زمام الأمور في البرلمان والحكومة في ظلّ مشاركة شعبية واسعة لدعمها، أم أنّ الجزائر ستتحول إلى ''حالة متأزمة'' سياسيّا في ظلّ قيادة حركة حمس، على غرار صراع حركة ''حماس الفلسطينية'' مع حركة فتح؟ أما جديد الجدال الشكليّ داخل أحزاب الموالاة فهو توعّد المدمنين على ممارسة ظاهرة ''التجوّل الحزبيّ'' بالعقاب الصارم، وكأنّ المحازبين في جبهة الموالاة داخل حقل من الأبقار التي لا نفع منها رغم أنّها تنال كامل حقوقها في ''التسمين'' و''التثخين'' وقد تضاعف أجر النائب في البرلمان أكثر من ثلاث مرات أيام قليلة قبل تعديل الدستور نهاية السنة .2008 إنّ الحكم على طريقة خوض حزب جبهة التحرير الوطنيّ وبقيّة أحزب التحالف الرئاسيّ لهذه الانتخابات، يبعث الشكّ حول مضمون الصفقة السياسية لأحزاب التحالف الرئاسي، وكأنّ النتائج تعبّر عن ''محاصصة سياسية شكلية'' أيضا، تقوم على المحافظة على ترتيب قوى الموالاة عن رضا وقبول من بقية الحلفاء، حيث تشدّق قياديو الجبهة بذكر نتائج الحزب الذي حافظ على المرتبة الأولى في انتخابات مجلس الأمة ديسمبر 2009 على حساب حليفيه، وتحوز الجبهة على 56 مقعدا في مجلس الأمة منذ ديسمبر ,2006 انتهت عهدة 23 منهم، بينما لم يكن عدد نواب حزب التجمع ''الأرندي'' يتجاوز 23 مقعدا انتهت عهدة 12 منهم، بينما لا تركّز حركة حمس كثيرا على تحقيق أكثر من المرتبة الثالثة وبعدد مقاعد لا يتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة، مع التركيز على أهمية بقائها القوة الإسلامية في البلاد مهما تطلّب الأمر من مقايضة وتنازلات، أو تهافت وصفقات، وهو ما يدعو إلى الدهشة حقا· أ·عصام بن الشيخ أستاذ العلوم السياسية بجامعة ''قاصدي مرباح'' ورفلة