فالقصة تشبه أكذوبة الشعب الذي أطلق أكذوبة الوليمة للأطفال ثم صدقها وراح يركض معهم نحو هذه الوليمة! شاءت الصدف أن ألتقي المرحوم عبد الحفيظ بوالصوف مسؤول التسليح والاستعلامات في الثورة في فندق ببيروت في السبعينيات وأتشرف بالجلوس معه لساعات.. وأسمع منه لأول مرة حقائق مذهلة حول الدور المصري المزعوم في الثورة الجزائرية، فقال رحمه اللّه: إن الثورة ولدت من رحم “اللوص” واللوص ولدت في الجزائر من رحم حزب الشعب في الأربعينيات وقبل حدوث الثورة المصرية بسنوات، فكيف يلد نظام الضباط الأحرار نظام “لوص” وهو سابق عليه في الوجود؟! هذا الكلام يتقاطع موضوعيا مع ما قد ينشره الرئيس أحمد بن بلة في مذكراته التي يؤكد على نشرها بعد وفاته بعد عمر طويل.. والذي يقول: إنها ستصحح أمورا كثيرة في موضوع تاريخ قيام ثورة الجزائري وسيرها ومنها قصة علاقة مصر بالثورة الجزائرية.. وقال لي بن بلة هذا الكلام سنة 1992 في جلسة غداء في بيته بحيدرة.. وبحضور زميل آخر في الصحافة! الرئيس علي كافي أيضا ذكر لي بعض المعلومات المثيرة بخصوص علاقة ناصر والمخابرات المصرية بالثورة الجزائرية في الجانب المالي والتسليح، وهما المجالان اللذان حاولت مصر عبد الناصر أن تحشر أنفها من خلالهما في شؤون الثورة الجزائرية أكثر من اللزوم.. وأدى الأمر إلى توتر جعل الباءات الثلاثة يتخذون قرار نقل قيادة الثورة من مصر إلى تونس. الرئيس كافي تولى مهمة تمثيل الثورة في مصر في السنوات الثلاثة الأخيرة للثورة.. ويعرف بالتدقيق كيف حاولت مصر حشر أنفها في مسار تسيير الثورة.. وكيف قاومه الثوار بحزم ورفضوه؟! المرحوم محمد يزيد وزير الإعلام في الحكومة الجزائرية المؤقتة قال “إن صوت العرب في القاهرة الذي كان ينشر أخبارا عن الثورة الجزائرية كان يسند أخباره إلى وقائع وهمية ترتب على الخريطة فقط.. ولا يعرف المصريون حتى أسماء المدن والجبال فينطقونها خاطئة”! العقيد المجاهد بن طوبال أطال اللّه عمره.. كان أحد الباءات الثلاثة المؤثرين في الثورة، كتب هو الآخر مذكراته.. ويرفض نشرها في حياته.. ويقول “إنها ستكشف الكثير من الحقائق التي قد تعيد النظر في العديد من المفاهيم”. العقيد علي منجلي نائب قائد رئيس أركان جيش التحرير قال لي إنه انتقل مرتين إلى القاهرة عندما كانت قيادة الثورة هناك.. وذهل عندما اكتشف أن المصريين يعيقون تموين الثورة بالسلاح والمال بغرض فرض الهيمنة عليها! وأنه شجع نقل القيادة إلى تونس! والعقيد منجلي كان يمثل المدعي العام في المحكمة التي أقيمت لمحاكمة العقداء الأربعة الذين حاولوا إحداث بلبلة في جيش التحرير لصالح المصريين.. وكان بومدين يرأس هذه المحكمة، التي قيل عنها إن أحكامها كانت قاسية جدا ضد المتهمين. وتجمع كل الشهادات التي أوردها كبار المسؤولين في الثورة على أن المصريين كانوا أقل الدول العربية مساعدة مالية وبالسلاح للثورة الجزائرية، وأن الضجيج الوحيد المسموع هو صوت العرب! أي أن المساعدة لا تتعدى أن تكون كلاما! بل ويذهب بعضهم إلى القول بأن مصر كانت تستبدل شحنات السلاح الحديثة التي كانت ترسل من أوروبا الشرقية للثورة الجزائرية بأخرى قديمة.. فتأخذ هي السلاح الجديد القادم وترسل “الراشي” إلى الجزائريين! وكانت مصر تأخذ 10? من السلاح القادم إلى الجزائر كحق للمرور؟! أي أن مصر كانت كما هي الآن سمسار سلاح ومال مع الثورة الجزائرية كحالها اليوم مع الثورة الفلسطينية! ويقول عبد الحفيظ بوالصوف رحمة الله عليه “إن حكاية تأميم قناة السويس في 1956 من طرف ناصر كانت بناء على تحليل انتهازي من المصريين، مفاده أن فرنسا التي تملك أسهما في شركة القناة العالمية قد أكلت هزيمة نكراء في فيتنام على يد جياب.. وأن اندلاع ثورة الجزائر قد أضعفها وبالتالي فإن تأميم القناة في هذا الظرف لا يسمح لفرنسا بأي عمل عسكري ضد مصر! ومن هنا، فإن هذا التحليل الانتهازي هو الذي جعل المصريين يستخدمون الثورة الجزائرية لصالحهم وليس العكس كما يدعون، إذاً فإن فرنسا ضربتهم في 1956 بسبب انتهازيتهم وليس بسبب الثورة الجزائرية! وتذهب بعض الشهادات المثيرة لمسؤولين جزائريين في موضوعات علاقة الجزائر بمصر في مجال القضية الفلسطينية.. وقد ينشر الرئيس بن بلة في مذكراته موقف الجزائر في مؤتمر القمة العربية في القاهرة سنة 1964.. وكانت من نتائجه انطلاق الثورة الفلسطينية في جانفي 1965.. وكان الفلسطينيون يريدون تكوين جبهة تحرير فلسطين تيمنا بجبهة التحرير الجزائرية المنتصرة.. ولكن المصريين حذفوا نقطة الجيم فتحولت الجبهة إلى حركة.. لأن المصريين لا يريدون ثورة في فلسطين تحرر فعليا أرض فلسطين على غرار ما حصل في الجزائر.. ويريدون أن ينسب التحرير لهم هم وحدهم وليس إلى أصحاب الأرض..! وبقيت المسألة عبارة عن حركة تشبه حركة هز البطن والأرداف في شارع الهرم! وأدت ما أدت إليه من ضياع للفلسطينيين أنجزته مصر بقيادتها “الحكيمة” للعرب، وقد تعمق الخلاف الجزائري المصري حول موضوع فلسطين بسبب صيغة اللاتحرير الذي تريده مصر للثورة الفلسطينية والذي حولته إلى مقاومة عوض القيام بثورة! وقد كان موقف الجزائر في مؤتمر الخرطوم سنة 1968 والذي قدمه الرئيس الراحل بومدين صادما لجمال عبد الناصر.. وكان من نتائجه صدور لاءات الخرطوم الثلاث.. لا صلح ولا تفاوض ولا اعتراف بإسرائيل.. وكانت هذه اللاءات عكس السياسة المصرية المعلنة في موضوع التعامل مع نتائج هزيمة 1967.. حيث قبلت مصر بقرار مجلس الأمن الدولي رقم 242، وبمشروع روجرس للتسوية (عكس سوريا)، ولكن مصر وافقت على لاءات الخرطوم لأسباب انتهازية مالية.. لأن وقف عائدات القناة بسبب الحرب قد جعل مصر في موقف مالي حرج وأرادت أن تضحك على العرب بحكاية إعادة بناء الجيش، فطلبت منهم المساهمة فيما أسمته بالمجهود الحربي وإعادة بناء الجيش.. وقد حصل بالفعل أن أقر العرب صرف مبالغ مالية معتبرة لشراء السلاح، ولكن المصريين كالعادة حولوا جزءا هاما من هذه المبالغ إلى أشياء أخرى غير السلاح.. لإخماد قلاقل داخلية في مصر تتعلق بسوء تسيير البلد. وبعد عام فقط.. وفي مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في الرباط سنة 1989 طلب الراحل فيصل والمرحوم بومدين في الجلسة المغلقة من ناصر تقديم تقرير مالي لهما باعتبارهما أكثر البلدان المساهمة في المجهود الحربي المقدم لمصر ماليا! ولكن ناصر رد على الملك فيصل الذي بدأ الكلام حول الموضوع قائلا: كيف تحاسب الرجعية ثورة مصر على الأوجه التي تصرف بها أموال المساهمة العربية في المجهود الحربي.” وأخذ بومدين الكلمة وقال “إن المال المقدم من الجزائر إلى مصر في إطار المجهود الحربي هو مال الشعب الجزائري.. وإذا كانت المطالبة بمعرفة الأوجه الذي صرف فيها هذا المال هو من العمل الرجعي فالجزائر أيضا رجعية..” وحمل كرسيه وجلس إلى جانب الملك فيصل! فانفجر عرفات باكيا لأنه رأى الأمل في تحرير فلسطين قد أصبح بعيدا! وقد ذكر لي المرحوم عرفات هذه القصة في غرفته في جنان الميثاق ذات يوم من سنة 1992. وفي جوان 1975 زار الأستاذ محمد حسنين هيكل الجزائر بمناسبة الاحتفال بالذكرى العاشرة للتاسع عشر جوان 1965.. وقال في المطار وفي القاعة الشرفية لمستقبليه بعنهجية المصريين المعهودة “إياكم أن تعتقدوا أنني بقدومي إلى الجزائر في هذه المناسبة قد غيرت موقفي من التاسع عشر جوان.. فموقفقي “أهوه” في جيبي كما هو! فقط جئت أضع عليه الروتوشات التي حصلت خلال 10 سنوات”! وكان بين المستقبلين الهادي حمداد وأحد مساعدي الرئيس بومدين في شؤون الإعلام برئاسة الجمهورية.. وكنت بين المستقبلين، ولم يكن بين المستقبلين الدكتور عميمور مدير الإعلام بالرئاسة لأسباب لا أعرفها حتى الآن. ووصل إلى علم بومدين ما قاله هيكل في المطار بخصوص موقفه من 19 جوان وهو القادم من المغرب ومن ليلة عشاء قضاها مع الملك الحسن الثاني، فرتب بومدين وقته للقاء هيكل لمدة طويلة وامتد اللقاء على ثلاث جلسات متتالية وعلى مدار ثلاثة أيام، وكل جلسة كانت تستمر لأكثر من 3 ساعات! وقد حرص بومدين شخصيا على أن يتم تسجيل اللقاء مع هيكل لأسباب لا نعرفها حتى الآن. وأتذكر وقتها أنني سألت هيكل باستغراب بعد الجلسة الثانية عن المدة الطويلة التي خصصها له الرئيس بومدين.. فقال لي ضاحكا “رئيسكم لا ينتصر عليه في الحوار بالضربة القاضية! بل ينتصر عليه في جولات عديدة وبالنقاط”! أذكر هذه المعلومات لأنها مهمة في فهم الأسباب التي جعلت الأستاذ هيكل يحجم عن نشر أي شيء عن هذا اللقاء الهام الذي مر عليه أكثر من 35 سنة، مع أنه ينشر على الناس هذه الأيام حتى الورقة التي كتبها الأستاذ مصطفى أمين يأمره فيها بالذهاب إلى خزنة الجريدة لأخذ تكاليف المهمة لتغطية حرب كوريا! في ذلك الوقت كانت الخلافات المصرية الجزائرية تترنح وكانت مصر سنة 1975 قد بدأت تتجه إلى إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل للقاء العلامة الكيلومترية (101) بين العسكريين الإسرائيليين والمصريين.. وبدأ المصريون يتحدثون عما يسمونه بسلام المنتصرين في سنة 1973.. وهم في الحقيقة يكذبون على أنفسهم و على شعبهم وعلى العرب.. فليس هناك من ينتصر و(يحرر أرضه) بالتنازل عن أرض الآخرين! كانت جزائر بومدين في ذلك الوقت (1975) ترى حلم الحرب مع إسرائيل قد انتهى إلى كابوس استسلام وليس سلاما، وأن فكرة الثورة التي تحرر فلسطين قد انتهت.. بل حتى فكرة الحرب الكلاسيكية قد انتهت.. وأن مصر قد انخرطت في مسار آخر، وأن مصر الحوتة الكبيرة قد اصطادها اليهود في يوم سبت حيث يحرم الصيد على اليهود! لهذا عقد بومدين مع هيكل هذا اللقاء الطويل ليسمعه رأيه ورأي الجزائر الثائرة فيما يفعله السادات! وكان بومدين يرى أن هيكل سيكون أحسن موصل للحقيقة كما يراها بومدين، لكن هيكل رأى فيما سمعه من بومدين في هذا اللقاء أنه لو ينشر للرأي العام يمس بالمصالح العليا لمصر.. ولم يستطع هيكل نشر حتى تأويلات لبعض ما قيل في هذا اللقاء.. خوفا من أن ينشر النص كله كما هو مسجل في رئاسة الجمهورية. ما أريد قوله هو أن الجزائر الصامتة لديها ما تقول إذا أرادت القول في حكاية الزعامة المصرية.. وفي حقيقة الدور الجزائري في القضايا العربية.. وأن ما يقوله المصريون من أن العلاقات الجزائرية المصرية تاريخية وعميقة ولا تتأثر بالحالات الطارئة هو قول يستند إلى فكرة أن الجزائر المغوارة لا تتأثر بمصر الثرثارة! لكن للصبر حدود حتى في الثرثرة.. وأن للجزائر ما تقول حتى في الثرثرة الإعلامية!