قد يصاب كل من يفكر في زيارة بلدية مسيف بالمسيلة لأول مرة بالإحباط وخيبة الأمل، خاصة إذا كان يتوفر على معلومات مفادها أن المنطقة تعد من أهم معاقل الثوار وأنجبت جيلا من الفحول خلدوا أسماءهم بحروف من ذهب، على غرار الشهيد العياشي شبلي، الشهيدة فطيمة شبيكة، الضابط مويسات فوضيل، والحاج العربي هلالي صراع الإخوة الأعداء دمّر حلم الشباب وأنعش الأحقاد وغيرهم من الأبطال الذين وهبوا حياتهم في سبيل أن ينعم جيل اليوم بخيرات البلاد. ولأن التاريخ لن تمحوه السنون فإن معركة جبل محارقة لازالت تحكي، إلى يومنا هذا، تلك الملحمة البطولية التي استطاع فيها المجاهدون بقدرة الله وإيمانهم بقضيتهم أن يكبدوا فرنسا خسائر جسيمة في العتاد والأرواح.. والطائرة الصفراء لا زالت شاهدة إلى يومنا هذا تحكي للأجيال تلك الملحمة البطولية. هذه الصورة هي التي حملتها معي وأنا أزور المنطقة لأول مرة.. وصلنا في حدود الساعة العاشرة صباحا عبر بئر هني، مقر دائرة الخبانة، عبر سيارة أجرة كان صاحبها وبعض السكان من مرافقينا يتحدثون بمرارة عن بلديتهم التي تأخرت كثيرا عن ركب التنمية وعن زيارة المسؤولين لها، على غرار مقداد سيفي عندما كان رئيسا للحكومة وكذا وزير المجاهدين السابق السعيد عبادو، وغيرهم من المسؤولين الذين أقيمت لهم الولائم و”الزردات”. وكأن الدبابات العسكرية توغلت داخل البلدية وخرجت لتوها كان مقررا أن نلج التجمع السكاني المسمى بئر العربي أو بئر الكراع، غير أننا فضلنا في الأخير التوجه إلى قلب المدينة، حيث نزلنا بالقرب من مقر البلدية الذي يقابله مقر فرقة الدرك الوطني، ولفت انتباهي وأنا بالشارع الرئيسي عدم وجود أي لافتة ترشدك إلى وجهتك، وهو ما أثار دهشتي. أما ما أثار استغرابي الكبير هو تلك الصورة المؤلمة التي وجدت عليها حال الناس هناك، حيث خيل لي أن عددا من الدبابات العسكرية توغلت داخل بلدية مسيف وتركتها على تلك الحالة.. برك من المياه والأوحال، أكوام من الأتربة هنا وهناك، وآثار السير عبرها تنتشر في كل مكان. دخلنا مقر البلدية في غياب رئيسها، بعد أن علمنا بأن مشكلة الانسداد التام حلت منذ أسبوع. استقبلنا نائب رئيس المجلس الشعبي البلدي وعدد من الأعضاء يمثلون مختلف التشكيلات السياسية، كما حضر اللقاء نائب قائد فرقة الدرك الوطني. أعطانا نائب الرئيس والأعضاء الحاضرون لمحة موجزة عن البلدية والمشاريع التي استفادت منها في السابق، وكذا المنتظر تنفيذها، على غرار مشاريع الصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب التي انطلقت فعليا منذ أيام. كما أعطانا صورة مبسطة عن كل القطاعات والآفاق التي ينتظرها سكان مسيف، البالغ عددهم 12 ألف نسمة يتوزعون عبر 13 تجمع سكني، منها بئر العربي، بئر القلالية، بئر الكراع، ذراع يوسف وذراع بن ناصر تبعد عن عاصمة الولاية ب100 كلم، وتمتاز بالنشاط الفلاحي والرعوي، وتعد صاحبة المرتبة الأولى على المستوى الوطني في إنتاج المشمش. بعدها تركنا البلدية مفضلين العمل الميداني مع المواطنين الذين رحبوا بنا. إكتشفنا عددا معتبرا من الواحات والبساتين التي أضفت عليها الجمالية والرونق الخلاب، غير أن الدمار والخراب بداخلها يعد من العلامات السوداوية، حيث لا وجود لمعالم مدينة تأسست سنة 1963 سوى واحة كبيرة احتضنت البناء الفوضوي الذي استفحل بها كثيرا بسبب الصراعات الضيقة. مكافحة البناء الفوضوي يلزمه عمل كبير.. بما أنه لا توجد معالم تدل على أن مسيف بلدية، فإن الأمر يتطلب ثورة حقيقية تبدأ بمكافحة البناءات الفوضوية التي استفحلت بشكل رهيب، حيث يمكنك أن تجد شارعا يسمى بالرئيسي وأغلق في نهايته، أو تجد شارعا آخر لا يؤدي للشوارع الفرعية. كما أن السمة الغالبة عليها هو الإنتشار المقلق للأتربة والأوحال، بسبب انطلاق عملية إنجاز شبكتي الصرف الصحي والمياه الصالحة للشرب، حيث خصصت الوصاية مشروعا أسعد السكان يتمثل في تجديد القنوات المذكورة وتوسيعها. كما استفادت البلدية من مشاريع مهمة في التهيئة الحضرية لإنجاز الأرصفة والممرات والطرقات وتجديد وتوسيع الإنارة العمومية المعطلة والمنعدمة في أغلب الشوارع. وأنت تتجول عبر شوارع وأزقة مسيف يستوقفك المواطنون، والكل يريد تبليغ رسالة مفادها نبذهم لكل المسؤولين المحليين وعدم رضاهم على الوصاية التي قالوا إنها همشتهم كثيرا بسبب صراعات المجلس البلدي ولم تنظر لحالتهم، رغم الزيارات المتكررة. تحدث معنا أحد أعضاء البلدية عن الغش الذي طال عملية إنجاز شبكة الصرف الصحي والمياه، وأكد بأنه قابل الوالي وأطلعه على الموضوع، كما راسل عدة هيئات، لكن كما قال بقيت دار لقمان على حالها. كما تحدث عن اختلاط مياه الشرب بالمياه القذرة وطالب بالتحرك قبل فوات الأوان. أما بخصوص البناء الفوضوي، فقد انتشر كالفطريات وبشكل متسارع، حيث تشير مصادرنا إلى عشرات القرارات غير المنفذة وإلى العديد من شوارع المدينة المغلقة، وهو ما جعل أغلب من تحدثنا إليهم يؤكدون أن الأمر يتطلب جهدا كبيرا ومساندة مطلقة من الوصاية من أجل التخلص من هذه المظاهر السلبية التي استفحلت ببلدية مسيف. المرافق الشبانية هياكل بدون روح يقول سكان مسيف إنهم يتوفرون على كل شيء وينقصهم كل شيء، بدليل أن أغلب المرافق الشبانية والترفيهية منجزة لكنها لا تؤدي دورها، وهو حال المركز الثقافي الذي افتتح في الثمانينيات ثم أغلق في التسعينيات. ويقول الشباب إن المركز أغلق بدون سابق إنذار وبقي على تلك الحالة إلى غاية سنة 2002، تم فتحه لكن هذه المرة كفرع للتكوين المهني والتمهين، به فروع للخياطة والكهرباء والبناء. أخبرنا أحد المطلعين على الملف أن مديرية التكوين بالولاية أرادت ترميمه وتوسيعه من أجل فتح تخصصات أخرى لفائدة أبناء المنطقة، إلا أنها لم تستطع ذلك بسبب ملكية المقر لوزارة الثقافة، وتساءل محدثنا عن غياب هذا القطاع منذ التسعينيات وعن فائدة احتفاظه بالهيكل. كما حدثنا عن ماكنات الخياطة المعرضة للغبار، قائلا..”بنات مسيف كرهن التكوين في الخياطة حيث أصبحت كل ربات البيوت خياطات”، مطالبا بفروع أخرى تتماشي وعمل المرأة كالطرز والصناعات التقليدية والحرف وغيرها. كما وقفنا على حالة مرفق يسمى بالمرفق الشباني يضم تجهيزات من الطاولات والكراسي ويفتح أبوابه بالمناسبات فقط، كإقامة الأفراح أو المآتم بالمنطقة، وبجانبه مكتبة البلدية الجاهزة وغير المجهزة. أما الملاعب الجوارية والمساحات الخضراء فهي الأخرى تنعدم بالمنطقة، ما عدا ملعب يصلح لممارسة كل شيء ما عدا كرة القدم. وصادفنا في تلك الأمسية أن وجدنا رياضيي نادي ألعاب القوى يتدربون في ظروف صعبة ومزرية تحضيرا للسباق الولائي بمناسبة عيد النصر، كما أن باقي الرياضات تعيش حالة من الركود بسبب قلة الإهتمام والرعاية على غرار رفع الأثقال، السباحة، الملاكمة والكراتى دو. التلاميذ يعتمدون على أقدامهم ويركبون فوق بعضهم البعض داخل الحافلات للحديث عن النقل ببلدية مسيف، كان لزاما علينا دخول حظيرة البلدية، التي تحتوي أربع حافلات منها واحدة من نوع طاطا معطلة طوال السنة، كما تحتوى الحظيرة جرارين بمقطورتين يستعملان في كل شيء بما في ذلك رفع القمامة، بالإضافة إلى شاحنة صغيرة يضطر القائمون على الشأن المحلي استخدامها في نقل التلاميذ. والحقيقة أن هذه الأخيرة هي عبارة عن خردة لا تصلح لنقل البشر في ظروف آمنة. تعمل هذه الحافلات على نقل التلاميذ المتمدرسين في كل الأطوار في وضعية صعبة جدا، حيث انتظرنا وصف هذه الحالة إلى غاية الساعة الخامسة مساء عندما قدمت الحافلات وبدأ التلاميذ امتطاءها. توجهنا مسرعين وأخذنا صورا لتلاميذ يركبون فوق بعضهم، بالنسبة للطورين الاكمالي والثانوي، أما تلاميذ الطور الابتدائي فهم يذهبون ويعودون إلى بيوتهم سيرا على الأقدام، وعلى مسافات متفاوتة تتطلب ثلاث حافلات أخرى من الحجم الكبير للقضاء على العجز. أما الحديث عن نقل المسافرين من مسيف باتجاه عاصمة الولاية أو البلديات المجاورة لها، فصدقوا أو لا تصدقوا.. لا توجد حافلة تابعة للنقل العمومي أو الخاص تعمل على ضمان نقل أزيد من 1000 مواطن يتنقلون يوميا لضمان قوتهم اليومي. كما أن جميع السكان الذين تحدثنا إليهم طالبوا الوصاية بتدعيم حظيرة البلدية بحافلات جديدة وتشجيع الخواص للعمل على نقل المسافرين من وإلى بلديتهم. أما بالنسبة للتعليم بالمنطقة، فتوجد بالبلدية 10 ابتدائيات ومتوسطتان وثانوية. وحسب القائمين على هذا الشأن، فإن مسيف بحاجة ماسة إلى متوسطة جديدة لأن الطور المتوسط يعاني من الإكتظاظ الرهيب، وهو ما وقفنا عليه حيث تجد في القسم الواحد من 45 إلى 50 تلميذا.. وهو عامل يبعث على القلق حسب أحد الأساتذة. كما أن التلاميذ القادمين من منطقة بئر العربي ويدرسون في المتوسط يعدون القوة الضاربة ويأتي بعدهم تلاميذ منطقة ذراع بن يوسف. وعلى هذا الأساس ركز السكان على مطلبهم لبناء متوسطة جديدة ببئر العربي حتى يفك الحصار على متوسطة جبل محارقة على سبيل المثال. الصحة والفلاحة الشجرتان اللتان تغطيان الغابة ربما الشيء الذي حافظ على تقاليده بالمنطقة هو القطاع الفلاحي والصحة، حيث تعد مسيف من البلديات الرائدة على المستوى الوطني في إنتاج المشمش من النوعية الرفيعة وكذا الخضار مثل الجزر، حيث تنتشر بها عشرات المستثمرات الفلاحية المتخصصة في المجال المذكور. كما يوجد بها مربو المواشي من أغنام وأبقار، واجتهد الفلاحون على خدمة أراضيهم التي أغنتهم وأصبحت مصدر فخر واعتزاز لهم، وهو ما جعلهم يوسعون نشاطهم كثيرا ويقررون غرس أشجار الزيتون، كما ينوى بعضهم تربية الخيول الأصيلة. كما أن الزائر لبلدية مسيف يكتشف اجتهاد الفلاحين في بعث الإخضرار، في حين تخلت عنه السلطات المحلية، حيث تنعدم المساحات الخضراء في كل الشوارع والساحات العمومية. أما القطاع الصحي فهو الآخر من القطاعات التي فرضت نفسها بالمنطقة، حيث تتوفر البلدية على أربع قاعات للعلاج وقاعة متعددة الخدمات تقدم خدمات للسكان وعابري السبيل، بعدما أولتها مديرية الصحة والسكان عناية كبيرة، حيث يتواجد بها 8 أطباء منهما طبيبان للأسنان و4 قابلات يسهرن على عيادة للولادة تظهر أحسن من مثيلاتها في بعض البلديات. كما وجدنا أحد الأطباء منهمكين في تقديم الإسعافات الأولية لمريضين، وعند دخولنا إحدى القاعات وجدنا قسم الاستعجالات مجهزا بكل اللوازم، خاصة الأدوية داخل إحدى الخزانات التي أثارت فضولنا كثيرا نظرا لكون بعضها مفقودا في ولايات مجاورة. كما لفت انتباهي النظافة الجيدة سواء في الأسرة أو عبر مختلف القاعات. بعدها تقدم منا رئيس المصلحة وأجاب على جميع أسئلتنا ووقفنا معه عبر جميع المصالح، كما تحدث على حرص القائمين على الشأن الصحي بالمنطقة على تقديم أحسن الخدمات لبلدية مسيف، غير انه ألح علينا في التأكيد على أن العيادة في حاجة ماسة لسيارة إسعاف ثانية. أما بعض المواطنين الذين كانوا بداخلها أكدوا لنا بأن قطاع الصحة ببلديتهم يختلف تماما عن كل القطاعات الأخرى، وآخر قال إن قطاع الصحة والفلاحة هما الشجرتان اللتان تغطيان الغابة. دعوة المستثمرين إلى مسيف الغنية إذا كانت مسيف معروفة بإنتاجها الفلاحي الغزير، فإن مواطنيها يتساءلون عن سر عزوف المستثمرين الخواص عن ولوج عالم الصناعة التحويلية، حيث يؤكدون أن ما تتوفر عليه منطقتهم من مشمش وزيتون وجزر سيساعد المستثمرين على فتح مصانع تحويلية، وبالتالي انتشال مئات الشباب من عالم البطالة القاتلة والعمل الموسمي في الحقول والبساتين. كما أكد كل من تحدثنا إليهم عن توفر مواد البناء من حجارة وجبس وغيرها، حيث طالبوا الجهات المعنية بفتح المجال للمستثمرين من أجل فتح مقالع وإنجاز معامل للجبس، والهدف، كما يضيفون، امتصاص البطالة وفتح الآفاق الاقتصادية. أما بخصوص الآثار فقد أكد أحد المهتمين بهذا الجانب وجود ثلاثة مدن أثرية ببلدية مسيف تقع في كل من برج بن ناصر، المقبرة وعين القصب، حيث أشار محدثنا إلى القطع النقدية التي عثر عليها وكذا المزهريات والقبور، كما قال، بطول 3 أمتار، مؤكدا على المراسلات العديدة الموجهة للجهات المعنية. مجاهدون مهمشون يطلبون الرأفة بهم منذ أن علم بوجودنا ظل يلح علينا من أجل زيارته، ليحكي لنا معاناة المجاهدين وذوي الحقوق ببلدية مسيف. كان يمتطي دراجة هوائية ويراقبنا من بعيد، حيث كلما نزلنا مكانا إلا ودعانا لزيارة مسكنه والإطلاع على أحواله، وهو ما حصل في حدود الساعة الثالثة زوالا. إنه عمي مسعود مويسات، التحق بالثورة المباركة سنة 59، أب لخمسة أولاد، يقطن في القرية الاشتراكية التي هي عبارة عن مساكن مهددة بالسقوط نظرا لبناياتها التي تآكلت. المعني تحدث بمرارة عن تهميشه وإقصائه من الاستفادة بسكن لائق، حيث يؤكد أن المسكن الذي استضافنا فيه اشتراه بمجهوده الخاص، وأن الدولة الجزائرية لم تعطه شيئا، مطالبا كل المسؤولين بالنظر إلى حالته الصعبة.