إنّ الناظر في تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين منذ البدايات الأولى، بل منذ كان التفكير جاريا لتأسيسها قبل ما يقارب عشرين سنة من تأسيسها في الخامس ماي 1931، ونحن نستذكر هذا التاريخ، يجد أنّ الوضع العام للجزائريين لم يكن فيه بشارات بنجاح أي دعوة إيقاظ، أو نشاط إصلاح ابن باديس راهن على محاربة الطرقية واللعب على العرقية ولا يُعرف فضل هذه الجمعية على الشعب الجزائري حتى يستحضر هذا الوضع حين كادت تنطمس معالم هويّته ويُنسى تاريخه.. فقد تميّز الوضع بما يلي: سلطة سياسية مستبدة مدمرة: ممثلة في الإحتلال الجاثم على الأمة منذ قرن. مكّنَ "الكولون" المستوطنين من الفرنسيين والطاليان والمالطيين واليهود ونزلاء السجون وقادة الإجرام من خيراتنا وثرواتنا.. قال الدكتور بوديشون "Bodichon" : إن أقصر طريق لبلوغ غايتنا هي نشر الرعب بالحديد والنار، ونشر الكحول وبث النزاع فيما بينهم..". الإستيلاء على المساجد والأوقاف وتحويلها إلى كنائس ومراكز تنصير، وحتى إسطبلات إمعانا في الإهانة (مثال ذلك جامع كتشاوة الذي بقي مقاما للصليب طيلة حقبة الإحتلال). التنصير: بعدَ الجيش المدّمر، يأتي جيش "الآباء البيض" يحمل الخبز والدواء في يد، والصليب والإنجيل في يد، يساوم الناس على الإسلام.. حيث تولى الكاردينال لافيجري Lavigerie سياسة تنصير واسعة لتحويل الجزائر مهدا لدولة مسيحية "تضاء بنور مدنيّة وحيها الإنجيل.." وآوى إلى مراكز الأيتام للأخوات المسيحيات أبناء العائلات التي يُبيد الجيش معظم أفرادها، تُربينَهُم على النصرانية، حتى "لا يحاربوهم من جديد". وتمّ التركيز على تنصير البربر بغرض تحويلهم إلى أقليات دينية، وفق خطة لفصل المناطق الناطقة بالأمازيغية تكريسا لمبدأ "فرّق تسُد"، وإخضاعها لقوانين خاصة، ومنع العلماء من السفر إليها، ومنع التعليم القرآني، وتغيير أسماء المدن والقرى. ومما يثير القلق أن يبقى لهم نشاط في هذه المنطقة، أوفي غيرها من القرى النائية، بنفس وسائل الإغراء كتقديم المساعدات المالية وتسهيل سفر الشباب إلى الخارج للدراسة في الكليات الدينية، أو الاستجمام في مجموعات مختلطة موجهة، لإخراج جيل لا يعرف من الإسلام إلا اسمه، ويدافع عن مصالح الدول المحتلة، ويقسموا البلاد إلى ديانات ومذاهب متناحرة، بأحفاد ابن باديس الصنهاجي والفضيل الورتلاني والمقراني و الشيخ الحداد وفاطمة نسومر.. خرّيجة زوايا القرآن.. فتفقد الأمة أجزاء من جسدها الجريح.. "الذين كفروا يُنفقون أموالَهُم ليصُدّوا عن سبيل الله. فسيُنفقونها ثم تكونُ عليهم حَسرةً ثمّ يُغلبون". جماعات صوفية مُنحرفة "الطرقية": عند النظر في الوضع السائد في البلاد حين بدأ رائد النهضة والتجديد ابن باديس رحمه الله وإخوانه في جمعية العلماء، نرى أنه بدأ عمله كأنه غريب.. والمُجدِّدون في الحقيقة غُرباء لأنهم أهلُ إصلاح وسط فساد كبير، ودعاة خير وسط شر مُستطير. سيطرت الطرقية على الفكر والمجتمع، حتى بلغ عدد الزوايا 348 زاوية، وكثرت البدع والخرافات، و"الإستسلام للقدر"، حتى قال شيوخهم: "إذا صرنا فرنسيس، فذلك لأنّ اللهَ أراد لنا ذلك، وهو الذي سلطهم علينا، وإذا شاء أخرجَهم.. ولكنهم يُمدّهم بالقوة والقهر.. فهذا من مظاهر قدرته.. فلنحمد اللهَ.. ولنخضع لقضائه".. هل أبقى هذا الهراء الذي كان الإعتقاد به شائعا، مجالا للبناء والنضال والمقاومة؟ ماذا لو أُشيع هذا الضلال بين إخواننا الفلسطينيين عن اليهود الغاصبين؟! هذه الجماعات الطرقية يُميِّزها مظهران: نشر البدع وتخدير الأمّة: فقد تحولت الصوفية من مراكز للفقه والرباط وجهاد الدعوة والتعليم في القارة الإفريقية، إلى إغراق المجتمع في عقائد تشلّ الفكر، من تعظيم الأضرحة والقباب، ورفع الرايات، وضرب الدفوف.. وأكل مال الأمة. وتحوّل ناس إلى عبادة المشايخ في خضوع واستكانة، وطلب الحوائج منهم، والنسل والذّرّية، والشفاء من الأمراض، وإنزال الغيث. فأكلوا أموال الناس بالباطل، وأرخوا الستائر دون الحرائر وفعلوا المنكرات بدعوى الرّقية. وكان من مبادئهم: سَلّم تَسلم، سلّم للرجال على كلّ حال، زوروا تنوّروا (أي الزوايا والقبور والمقامات..)، من ليس له شيخ (أي طرقي) فشيخه الشيطان، اعتقد ولا تنتقد، كن كالميّت في يد "الغسّال".. مع أن الإسلام الحقّ حارب هذه العبوديات الضالة لغير الله الواحد، وتعظيم مثل هؤلاء الدجالين. روى الطبراني عن مُعاذ، والسيوطي عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: "من مشى إلى صاحب بدعة ليُوقّره، فقد أعانَ على هدم الإسلام" . الطرقية سند الاحتلال: فكانوا يكيدون لدعاة الإصلاح وعلماء الجمعية، ويشون بهم لدى إدارة المحتلّ، فكانوا بلاء على دعوة الإصلاح عظيما. ومن عجب أنّ الاحتلال الذي حارب كل ما له علاقة بالإسلام والقرآن، شجّع الطرقيين الغاشين للإسلام والمسلمين بالتجهيل، ذلك أنّهم عون له على تخدير عقول الجماهير وقبولها الأوهام، فتُسلم أمرها لرؤساء دينيين ودنيويين هم تُجار غشّ وغبن. قال الشيخ البشير الإبراهيمي: " كان من نتائج دراسة المجتمع الجزائري بيني وبين الشيخ ابن باديس في اجتماعاتنا بالمدينة المنورة (كان ذلك في 1913) أنّ البلاء على هذا الشعب آت من احتلال روحي، يُمثِّلهُ مشايخ الطرق المتاجرون باسم الدين، المتعاونون مع الاحتلال الفرنسي برضا وطواعية.." دعاة الإدماج والتجنيس: لم يقف الأمر عند هذا، فمن البلاء أنّ العصر الذي بلغت فيه الحضارة الجديدة الذروة في التطور والمادّيّة، ابتليت أمّتنا بالتخلف والهوان، فهاجمتنا هذه الحضارة بالسيف والقلم.. وصارَ مُحالا أن لا تُبهرَ العقول التي تعلمت في مدارس الغرب ببريق الفلسفة والعلوم الأوروبية، ولا تميلَ نفوسُهم لها دون تمييز الصحيح من الزائف.. فكان من النتائج؛ ظهور فئة مُتعلمة في البلاد المُحتلة، تدعو للإندماج في هذه الحضارة، والذوبان فيها، وترك المُقاومة.. الخلفية الفكرية للاندماج: ويُقصَد بالتجنس الدخول في جنسية المحتلّ، والتنازل عن القومية واللغة والدين والتاريخ. ومن شروطه التنازل عن الاحتكام إلى قانون الأحوال الشخصية الإسلامي. وكانت سياسة فرنسا العمل لإعداد جيل يتنكر لدينه وأمّته، ويدعو إلى النظام الحضاري للأمم الغالبة.. صرّح أحد وزراء التربية، وهو جول فيري (1883) Jules Ferry قائلا: "إن المدرسة سلاحٌ ماض في التغلب على الروح الوطنية الجزائرية التي أشعلت الثورات المُتوالية، و جعلت الجزائر جحيما لا يُطاق..". وصار الشباب الجزائري الذي أتيح له أن يتعلم بالمدارس الفرنسية يحفظ تاريخ فرنسا و"أجداده الغاليين" !"nos ancêtres les gaulois" واستطاعت فرنسا أن تُضلل بعضَ الجزائريين الذين تعلموا بمعاهدها العليا، وأن تجعلَ منهم دُعاةَ إدماج، فقد دعت حركة النواب المسلمين 1930 إلى الإسراع بالتجنّس والإدماج الكامل للجزائر.. طرُق الجمعيّة في مُحارَبة تلك السياسة الاندماجية: أ- إصدار فتوى جريئة مُتحدّية للمُحتلّ، تبيّن حُكم المُتخلّي عن أحكام الشريعة، باعتباره مُرتدّا خارجا عن الإسلام، ولا تجري عليه أحكامُه، فلا يُزوّج بمسلمة، ولا يُصلّى عليه ولا يُدفن في مقابر المسلمين، فقد اختار ما عليه تحمّل تبعاته كلها. ب- غرس الثقافة العربية الإسلامية، والتحصين بروح الإعتزاز بالتاريخ والحضارة الإسلامية التي كانت مرجعا للعلوم والمدنية للحضارة العصرية في أكثر من مجال، ونبذ الذوبان في حضارة قائمة على الكفر والإلحاد في الإعتقاد، والفجور والإنحلال في الأخلاق، والتفسخ في الثقافة.. ويكون ذلك في مدارس الجمعية، والنوادي، والمساجد، والكشافة الإسلامية، والجرائد. ج- الردّ الصريح على تلك السياسة الخاطئة ودُعاتِها، من ذلك ما قال ابن باديس رحمه الله: "قال بعض النواب والأعيان أنّ الأمّة الجزائرية تعتبرُ نفسَها أمّةً فرنسية بحتة، ولا غاية لها إلا الإندماج، حتى قال أحدهم: أنّه فتش عن القومية الجزائرية في بطون التاريخ فلم يَجد لها من أثر، وفي الحالة الحاضرة فلم يعثر لها على خبر.. إننا فتشنا في الحالة الحاضرة، فوجدنا الأمّة الجزائريةَ المسلمة مُتكوِّنةً.. ولها تاريخها الحافل بجلائل الأعمال، ولها وحدتُها الدينية واللغوية، ولها ثقافتها الخاصة وأخلاقها.. ثمّ إنّ هذه الأمّة ليست فرنسا، ولن تكونَ فرنسا، ولن تستطيعَ أن تكونَ فرنسا ولو أرادت.. وهي بعيدةٌ عنها في اللغة والأخلاق والدين والوطن.. وفي تلك الظروف دوّت كلماته نشيدا من تأليفه، يحفظه كل جزائري، ومما فيه: شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب من قال حاد عن أصله أو قال مات فقد كذب أو رام إدماجا له رام المحال من الطلب ضرب المحتلّ على وتر العرقية والعنصرية إنّ نظرة على مبادئ حضارتنا الإسلامية وتاريخها الذي نعتزّ به، ولا نتردّد في تقديمه نموذجا إنسانيا راقيا.. ترينا أنها تنبع من أسس إنسانية، لا تحقر الشعوب ولا تستذلهم كما في الحضارات الأخرى القديمة والحديثة، ولا تحاول إفناء الشعوب بما عندها من اختراعات، ولا تنظر إلى القومية والعشائرية والقبلية. بل تَعرضُ مبادىء لنظام المدنية والحضارة على العالم، فمن قبلها صار كسائر المؤمنين بها. روى البيهقي ما أعلن صلى الله عليه وآله وسلم من مبدأ إنساني في حجّة الوداع: "يا أيها الناس؛ إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد. ألا لافضلَ لعربيّ على عجَميّ، ولا لعجميّ على عربيّ، ولا لأسوَدَ على أحمر، ولا لأسوَدَ على أحمرَ إلا بالتقوى". استخدام الفكرة العنصرية لإضعاف الأمّة بدأت تظهر خلال الإحتلال دعوات قومية في مواجهة دولة الخلافة الإسلامية المُوحّدة، كالطورانية في تركيا، ومؤسسوها يهود، والقومية العربية بقيادة مسيحيين عرب، منهم من تخرّج من الجامعة البروتستانتية في بيروت، ثم توسعت. والهدف إقصاء الإسلام، وتفريغ القضية السياسية والاجتماعية من المُحتوى الإسلامي، ونشر مبادئ وفلسفات أخرى، وإضعاف روابط الثقافة المشتركة واللغة الواحدة، وأخوة العقيدة. يقول محمود تيمور القصصي المشهور: " لئن كان لكل عصر نبوّة، فإنّ القومية نبوة هذا العصر في الوطن العربي"..! وهي نبوة يدعيها ممسوخون إندماجيون.. فهي باطلة باطلة.. روى أبو داود عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: " ليس منّا من دعا إلى عصبيّة، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية". جهاد متواصل لوحدة الأمّة كان للإحتلال نشاط متواصل في المجالات الفكرية والقانونية والتنصيرية لمناطق نائية حافظت على لهجاتها على مرّ الأزمنة، كمنطقة القبائل، لكن هذه المحاولات باءت بالفشل، ولقيت من هؤلاء الشرفاء جهادا مُستميتا تكلّل بخروج المحتل الغاصب، والمحاولات متواصلة.. وكتب ابن باديس رحمه الله، مقالا تاريخيا مُذكٍّرا فيه بأصله الصنهاجي الأمازيغي، بعنوان هو كالقاعدة والمبدأ: "ما جمعتهُ يدُ الله، لا تُفرِّقُهُ يدُ الشيطان": ..إنّ أبناءَ يعرب وأبناءَ مازيغ (البربر) قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنا، ثمّ دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدّة والرخاء، وتُؤلف بينهم في العسر واليُسر، وتوحِّدُهم في السرّاء والضرّاء، حتى كوّنَت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرًُا مُسلما، أمّهُ الجزائر و أبوه الإسلام. وقد كتبَ أبناء يعرب وأبناءُ مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرَف لإعلاء كلمة الله، وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدّرس لخدمة العلم.. فأيّ قوّة يقول عاقل أنها تستطيع أن تُفرّقهم.. لولا الظنون الكواذب والأماني الخوادع. يا عجبًا! لم يتفرّقوا وهم أقوياء، فكيف يتفرّقون وغيرُهم القويّ.. كلا والله..لا تزيدُ مُحاولات التفريق بينهم إلا شدّة في اتحادهم، وقوّة لرابطتهم.. وهو الذي قال: أشعبَ الجزائر روحي الفدا لما فيك من عزّة عربيّة بنيتَ على الدّين أركانَها فكانت سلامًا على البشريّة وصدق قلبُه كما صدقت لهجتُه، ما قيمةُ الأحساب والأنساب إذا كانت سبيلا للفرقة والتنازُع المُفضي إلى الفشل وغلبة الأعداء؟ وما قيمتها في ميزان الحقّ؟. قال تعالى:" فإذا نُفخَ في الصّور فلا أنسابَ بينهُم ولا يتساءَلون". وأخيرا.. فما أشبه الليلةَ بالبارحة، فهل من رجال يجمعون الأمّة على الحقّ، ويكونوا كما كان ابن باديس حين سأل: لمن أعيش؟ فأجاب: أعيش للإسلام وللجزائر.. بقلم: حسن عداد