في 1970 جمد الراحل بومدين الهجرة إلى فرنسا بعد المشاكل التي صاحبت مطالبة الجزائرلفرنسا بإعادة النظر في سعر برميل البترول الذي كان سعره لا يتعدى 70 دولارا للبرميل.. وقال بومدين في خطبة شهيرة ألقاها في مدينة تبسة على ما أذكر: "نأكل التراب في الجزائر ولا نهاجر إلى فرنسا بدون أن نُحترم"! واليوم تجري فرنسا مفاوضات جديدة لإعادة صياغة اتفاقية سنة 1968 بين الجزائروفرنسا حول موضوع الهجرة! وتريد فرنسا أن تصوغ اتفاقية جديدة تمكنها من تنفيذ سياسة تسميها تأدبا ب"الهجرة الإنتقائية"، وهي في الحقيقة تريد اتفاقية تمكنها من السطو على الكفاءات الجزائرية لجلبها إلى فرنسا في إطار سياسة الهجرة الإنتقائية! ومعنى هذا الكلام أن فرنسا تريد صيغا جديدة للهجرة تمكنها من الإستحواذ على النخب الجامعية الجزائرية في حوالي 80 تخصصا علميا.. على رأسها الإعلام الآلي والطب والهندسة. سياسة فرنسا نحو النخب الجزائرية في سياق الهجرة ليست وليدة اليوم.. كما هي ليست متعلقة بسياسة اليمين الفرنسي أو اليسار الفرنسي نحو الهجرة، كما يحلو للبعض طرحها.. بل تتعلق بنظرة فرنسية واحدة للسطو على الإطارات الجزائرية في صورة أخرى للنهب المنظم للجزائر..! تتذكرون أن الرئيس الفرنسي الراحل ميتران عندما حل بمطار الجزائر في الثمانينيات قال" إن الجزائر تتمتع بثروة شبانية هائلة!".. ولم يفهم الذين استمعوا إلى خطبته ما يقصد ميتران إلا عندما أقنع الرئيس الشاذلي بن جديد بأن يتنازل له عن 200 ألف شاب جزائري يعيشون في المهجر وهم من أصول جزائرية! كان ميتران يريد أن تأخذ فرنسا حقها من ثروة الشباب الجزائري، خاصة أن فرنسا بدأت تظهر عليها آثار الشيخوخة! واليوم يريد ساركوزي أن يحول خطوة ميتران إلى مستوى أعلى، أي أن تأخذ فرنسا الشباب الجزائري المتكون.. وليس الشباب العادي! وبالعربي المفهوم.. تقوم الجزائر بتكوين الشباب الجزائري في الجامعات الجزائرية وتسمح لفرنسا بأن تجري المسابقات لاختيار أحسن المتكونين لأخذهم لفرنسا في إطار ما تسميه فرنسا الهجرة الإنتقائية! منذ 20 سنة، قال لي مسؤول سام في الدولة: إن التكوين الجزائري العالي باللغة الفرنسية يسهل عملية سطو فرنسا على الإطارات المتخرجة بالسهولة المطلوبة، لأن عامل اللغة أصبح أساسيا في إحداث النزيف الوطني لإطارات البلاد نحو فرنسا تحديدا! واليوم قال لي مسؤول سامي أيضا: إن اختيار الجزائر للغة الفرنسية كلغة ثانية نظريا، ولغة أولى في التكوين العلمي الدقيق في الواقع سنة 1962، هو الذي جعل استقلال البلد يرهن لدى فرنسا! وأغلب المشاكل التي تواجه الجزائر في علاقاتها مع فرنسا حاليا تعود أساسا هذا الإختيار الذي تم قبل 50 سنة!. وفهمت من كلام هذا المسؤول أن الجزائر المستقلة باختيارها للغة الفرنسية كلغة تدريس عوض الإنجليزية، قد سمحت لفرنسا بأن تعيد ترتيب احتلال الجزائر بوسائل أخرى غير وسائل الإحتلال المباشر! ولهذا باتت الجزائر "إيالة" ثقافية احتياطية لفرنسا، وهذه الوضعية هي التي كانت وراء فكرة عدم تجريم الإستعمار واعتباره ظاهرة إيجابية! الغريب في الأمر أن الجزائر الآن لا تتحدث مع فرنسا في موضوع حقوق المهاجرين، كما كانت تفعل في الستينيات والسبعينيات، بل تتحدث فقط في موضوع من يذهب إلى المهجر وكيف يذهب! أما الحقوق والإحترام فهي مسائل أصبحت خارج الحديث بين الدولتين! إن تحنيط الأجيال الجزائرية مدة 50 سنة في نظام تعليمي مغلق على اللغة الفرنسية وحدها قد أدى إلى إلحاق أضرار كبرى بالبلاد.. وجعل الشباب الجزائري الفار من الوطن لا يرى إلا فرنسا! وهذه الوضعية هي التي سمحت لفرنسا بتقوية مركزها التفاوضي في كل المسائل المتعلقة بالعلاقات الثنائية! عندما قال لي هذا المسؤول هذه الحقيقة المرة من أن اللغة الفرنسية في الجزائر أصبحت حبلا فرنسيا في عنق السلطة، في الجزائر بعد 50 سنة من هذه السياسة.. حملقت فيه جيدا.. وكدت أن أقول له: لماذا إذا تتحدثون عن استعمار العساكر الذي استمر 130 سنة ولا تتحدثون عن استعمار الحروف الفرنسية للجزائر، والذي استمر حتى الآن 50 سنة؟! الجنسية الآن أصبحت اللسان ولم تعد الميلاد أو الجينات.. ومازلنا نكتشف كل يوم كم نحن مغفلون؟!