دخلت الثورة الشعبية في سورية أسبوعها السادس حتى الآن، ولا يبدو أنها تتوقف، بل ماضية لتحقيق فيما خرجت من أجله، الحرية للشعب السوري الذي كاد ينسى معنى التعبير عن نفسه، لدرجة أصبح يخشى الجدران وأقرب المقربين خوفا من الوشاية للأمن، وكثيرون قضوا سنوات دون محاكمة نتيجة وشاية أو تقرير لمخبر حاقد. بخروج شجعان درعا انكسر حاجز الخوف. أجل خرج الشعب السوري من أسر الخوف ورهبة المخابرات والنظام السوري الذي حكم بالحديد والنار لأربعين عاما، وبقي منتشيا بقبضته الأمنية، تحت شعارات قومية جعلت القاصي والداني خارج سورية يصدقها إلا السوريين أنفسهم كانوا يعلمون أنها ستارة لبقاء النظام مثل شعارات “دولة مواجهة، ممانعة، ترفض املاءات الخارجية، مستهدفة لأنها تدعم المقاومة.. وغيرها من شعارات” حبس بها أنفاس الشعب السوري بالمعركة والتحرير في وقت لا زالت الجولان محتلة حتى اليوم، لذا تفاجأ النظام حد الارتباك والقسوة المفرطة بالتعامل عندما خرجت أولى طلائع المنتفضين من درعا، ومنها انتشر قبس نورهم إلى باقي ربوع القطر السوري. اعترف النظام بشرعية مطالب المحتجين، ووعد بالإصلاحات، تلك الإصلاحات التي وعد بها الرئيس بشار الأسد منذ أن أقسم اليمين الدستورية عام 2000، ثم أكدها في 2005 في مؤتمر حزب البعث، واليوم على هدير الانتفاضة يعد بها مرة ثالثة. رفع المحتجون مطالب محددة: رفع حالة الطوارئ، إطلاق سراح المعتقلين خلال الانتفاضة، ومعتقلي الرأي المحكومين وغير المحكومين، بمعنى تبييض السجن السياسي من نزلائه، وعودة المنفيين قسرا(المهجّرين لأسباب سياسية) دون قيد أو شرط، وتعديل الدستور بما يتماشى ودولة مدنية، وهذا يعني شطب المادة 8 من الدستور التي تنص على أن حزب البعث قائد الدولة والمجتمع، ومن المطالب أيضا قانون الأحزاب، وقانون الإعلام، وقانون انتخابات يسمح للجميع بالمشاركة بالانتخابات بعدما كانت المشاركة محصورة على الجبهة التقدمية (أحزاب مجهرية تنضوي تحت لواء البعث) التي يرأسها حزب البعث الحاكم، ومستقلين من أتباع النظام، تسمية مستقل للديكور لا أكثر ولا أقل. وطالما لدى الرئيس بشار الأسد نية الإصلاح منذ استلامه السلطة يفترض أن تكون مشاريع قوانين الإصلاح جاهزة، أو على الأقل لديه تصور للإصلاح، لكن تبين أن كل تلك الوعود كانت للدعاية السياسية وليس للفعل السياسي الجاد، وهذا يفسر تأخر النظام في الاستجابة لمطالب المتظاهرين، مثلا حالة الطوارىء التي أقرها ضباط بعثيون عام 1963 بعدما استولوا على السلطة بانقلاب عسكري، وصار الطارئ حالة دائمة، فالدستور السوري يخول رئيس الجمهورية برفع حالة الطوارئ بمرسوم رئاسي، لكنه للأسف لم يفعل بل اكتفى بالتوقيع على مشروع قانون رفع حالة الطوارئ، ولريثما تنفذه الحكومة نقضي سنوات أخرى تحت حالة الطوارئ المرفوعة إعلاميا والباقية بالواقع، وأيضا إطلاق سراح معتقلي الانتفاضة على الأقل، ولم يفعل، وأطلق بعضهم على دفعات أعطت انطباعا بالابتزاز السياسي، فيما غض الطرف عن سجناء الرأي المحكومين بأحكام جائرة. واللافت بدلا من الاستجابة لمطالب المتظاهرين، راح وشكل حكومة على رميم حكومة العطري، يرأسها عادل سفر، وزير الزراعة الذي أودى بالزراعة السورية إلى الهاوية بسبب فساده، حينما اشترى بذورا منتهية الصلاحية، ومنع استخدام المياه الجوفية بحجة الجفاف، فأصبحت سورية مستوردة للقمح بعدما كانت الدولة العربية الوحيدة التي تصدر القمح الفائض عن حاجتها، فهل هذا يؤتمن على التغيير يادكتور بشار؟ وهل انعدم النزهاء في سورية حتى تستعين بالفاسدين؟ لعمري ما خرج الشباب السوري كاسرا طوق الخوف من أجل تغيير ناجي العطري بعادل سفر “موسى الحاج بالحاج موسى” والرئيس بشار يعرف ذلك جيدا أو يفترض أنه يعرف أن الحكومة ليست سوى حجر شطرنج في رقعة المنظومة الأمنية السورية التي تتكون من سبعة عشر جهاز أمن، كلها مكرّسة لقمع المواطن، وهي المتنفذة في السياسة السورية، ولعل إقالة رئيسة تحرير جريدة تشرين الصحفية مسالمة مثال صارخ على سطوة الأمن حينما أبلغها ضابط أمن بانتهاء مهامها، ولم تأت إقالتها من وزير الإعلام . وهنا جوهر الأزمة السورية يا سيادة الرئيس، فالأزمة في بنية النظام القائمة على سيطرة الأجهزة الأمنية على السلطة، فهذا النظام بناه الرئيس الراحل حافظ الأسد على “الكل الأمني”، حيث شكل أجهزة أمنية مختلفة، وبنفس الوقت غض الطرف عن فساد هذه الأجهزة ، وهذا يسمى في علم السياسة الحديث “الرشى السياسية”، يعني غض الطرف عن فسادهم مقابل الولاء المطلق له، وإلا أخرج ملفاتهم السوداء وفضحهم على الملأ. وسارت القبضة الأمنية بعهد الأسد الأب مثل الساعة السويسرية، لايجرؤ أحد من قادة الأجهزة الأمنية على رف أذنه أمام الرئيس حافظ الأسد، الذي استخدم هذه الأجهزة كأدوات في حكم سورية، ورجال الأمن لا يطبق عليهم القانون الجنائي وفق المرسوم /4 /الصادر في 25 يناير 1969 “لايجوز ملاحقة أي من العاملين في إدارة أمن الدولة عن الجرائم التي يرتكبونها أثناء تنفيذ المهمات المحددة الموكولة إليهم أو في معرض قيامهم بها إلا بموجب أمر ملاحقة يصدر عن المدير”، وبالتالي لا يطبق القانون على ما يرتكبه رجال الأمن من جرائم ، ولعل المجازر التي ارتكبت في عهد الأسد الأب كرست إطلاق يد الأمن ضد كل من تسول له نفسه أن يجهر برأي يخالف رأي النظام، فمجزرة حماه عام 1982 في مواجهة مع الأخوان المسلمين، راح فيها ما لا يقل عن 30 ألف ضحية، ومجزرة سجن تدمر العسكري راح فيها نحو 1500 ضحية، ومجازر أخرى، حدثت أواخر السبعينات وبداية الثمانينيات من القرن الماضي، ولم يحاسب أي من مرتكبي تلك الجرائم التي تصنف “جرائم ضد الإنسانية”، ونشطت دعاية النظام “بالمؤامرة الخارجية”، يومها لم تكن وسائل الاتصال الحالية، الفضائيات والأنترنيت والفيس بوك وتويتر، وبلاك بيري، لذا مرت تلك المجازر بتعتيم إعلامي محكم، ولا توجد صورة عن تلك المجازر حتى الآن، بينما انتفاضة سورية اليوم ورغم الحصار الإعلامي لها لتصوير ما يجري في سورية خرجت صور المظاهرات والشهداء والمناظر البشعة لقوات الأمن تسحل وتمتهن كرامة الشباب بالدوس عليهم موثوقي الأيدي والأقدام، أمر ربما حصل في عهد العبودية قبل قرون، يوم كانت تجارة الرقيق، سيد الأرض يشتري الفلاحين كما يشتري الدواب كأدوات إنتاج، لذا استنكر العالم بشدة مناظر امتهان كرامة الإنسان. إذن المشكلة ليست بالحكومة، ولا بقوانين تصدر عن الحكومة أو عن رئيس الجمهورية، بل المشكلة في بنية النظام نفسه الذي بناه الأسد الأب على القبضة الأمنية والدولة البوليسية، لكن الفرق بين عهد الوالد وعهد الابن، أن الرئيس حافظ الأسد كان يحكم بالأجهزة وهم تحت سيطرته، ولا يجرؤ أي منهم مخالفة أوامره، بينما في عهد الأسد الابن هيمنوا على السلطة وأصبحوا الحاكمين الفعليين، وهذا ما يفسر عدم تنفيذ أوامر الرئيس بعدم التعرض للمتظاهرين وحمايتهم، وما حصل بالواقع أن الدماء سالت في شوارع سورية وعلى أيدي قناصة وشبيحة الأجهزة الأمنية. والمؤسف ترويج أكاذيب عن “مؤامرة خارجية، وتورط دول عربية، وسلفيين وغيرها من أقاويل”، وهذا بحد ذاته استغباء للسوريين الذين خرجوا من أجل مواطنة كاملة رافضين منطق الرعية والعبودية واستعباد الأجهزة الأمنية لهم، طفح كيلهم فلم يعد هناك مجال للتحمل أكثر من أربعة عقود وباسم “لا صوت يعلو فوق صوت المعركة”، فلا غرو أن ينتفض الشعب السوري برمته لأجل حريته. وهنا أتساءل لماذا المظاهرات المليونية التي خرجت للتأييد والمبايعة الأبدية للرئيس بشار لم يصب واحد منهم بخدش؟ ولا نتكلم على طريقة الإجبار لإخراج الناس بالقوة لمظاهرات التأييد، ويحزنني لو صدقت يا سيادة الرئيس خزعبلات تقارير أجهزة المخابرات أن هذه الجموع خرجت بإرادتها لتأييدك، فحينها تكون أخطأت مرتين، مرة بعدم فهم شعبك، ومرة أخرى لأنك صدّقت هؤلاء الكذبة من حولك. الآن سال الدم ودخلت سورية في دوامة العنف والعنف المضاد، وكلما قتلت قوات الأمن المتظاهرين استفزت الشعب وتدفق للشوارع أكثر، فيجب كسر هذه الحلقة بإجراءات جادة تنقل سورية إلى الديموقراطية والحرية بدون دماء بعد اليوم. وهذه الإجراءات كالتالي، وبداية نثمن قرارات رفع حالة الطواريء وإلغاء محكمة أمن الدولة وحق التظاهر، ولكن في أرض الواقع لم يطبق شيء، حيث لا زالت الاعتقالات العشوائية ومنع المظاهرات، وبالتالي نرى ما اتخذ من قرارات لايعدو أن يكون دعاية للتسويق الخارجي (...) د. أميمة أحمد