يبحث الكثير من عشاق الحضارة والرقي عن إبداعات أثرية ومعالم تاريخية تشفي فضولهم عبر الزخرفات الموجودة بالقصور التاريخية تارة، وفي آثار الحضارات المتعاقبة على بلادنا والموجودة عبر مختلف ولايات القطر تارة أخرى، مستبعدين من بحثهم هذا شوارع العاصمة وبعض المدن الكبرى التي تشتمل على لوحات فنية أبدعتها أنامل الفنانين عبر مداخل البنايات الكولونيالية التي وللأسف الشديد لا تحظى ولو بالقدر الضئيل من الأهمية التي تعطى للمعالم التاريخية، لأن غالبيتها أصبحت مشبعة بالرطوبة أو في مرحلة جد متقدمة من التدهور. تنقلت “الفجر” إلى بعض شوارع العاصمة، وهناك وقفت على الحالة المزرية التي آلت إليها بعض المباني والعمارات ذات التصاميم المعمارية الكولونيالية، وخاصة تلك التي تحمل على واجهاتها نقوشا لرؤوس بعض الحيوانات كالأسد أو زخارف من الرخام ولوحات موزاييك في مداخل البنايات، حيث لاحظنا ونحن نتجول في بعض الشوارع العتيقة كشارع حسين طياح، عبان رمضان وساحة الشهداء، وكذا شارع ديدوش مراد وغيرها من شوارع العاصمة التي تضم عمارات سكنية يعود تاريخها إلى أكثر من قرن، أصبحت مشبعة بالرطوبة وعلى وشك الانهيار، أما تلك البنايات التي تأوي وزارات ومقرات سياسية نجدها مرمّمة ونظيفة، كما أنها تحتفظ ببعض التحف المعمارية. تماثيل مسروقة ومنزوعة وأخرى محروسة ونحن في شارع حسين طياح بالعاصمة، التقطنا بعض الصور لتماثيل مصنوعة من الجبس أو البرونز وكذا الزخارف والنقوش الموجودة فوق البنيات وفي أعلى الأبواب، ولفت انتباهنا تمثال امرأة مصنوع من الرخام معلق في سلالم إحدى البنايات. ولمعرفة المزيد عن هذا التمثال الذي لا يزال صامدا، تحدثنا مع أحد سكان العمارة الذي قال إن هذا التمثال يعتبر الوحيد في الشارع ويعود إلى الفترة الاستعمارية، ويسهر على حراسته سكان العمارة خوفا من السرقة. أما على يمين التمثال فيوجد صندوق الرسائل مزخرف ومنحوت بطريقة فنية متقنة وكأنه قطعة أثرية. وفي نفس الشارع ونحن نمشي باتجاه الطريق المؤدي إلى ساحة الشهداء، أخبرنا صاحب مطعم يعمل منذ سنوات في هذا المكان “أنه في الماضي كانت توجد رؤوس حيوانات مصنوعة من مادة البرونز فوق الأقواس التي تطل على الواجهة البحرية للطريق الرئيسي، إلا أن الجهات الرسمية هي التي قامت بنزعها دون معرفة سبب ذلك”. وأضاف آخر أن بعض التماثيل المصنوعة من الجبس والرخام سرقت من طرف بعض اللصوص في وقت مضى، وهناك من الأشخاص من أخذها كزينة أو ديكور يوشح بها شقته. تحف معمارية مهددة بالزوال محطتنا الثانية كانت شارع الشهيد محمد سيدهم، لمحنا من بعيد تمثالا لرجل كبير مصنوع من مادة الرخام على الواجهة الخارجية لإحدى البنايات رافعا يديه إلى السماء، تمثال في غاية الجمال والروعة، ولكنه من الصعب أن يراه الشخص منا بسهولة كونه موجود في زاوية العمارة وتغطيه عمارات أخرى مقابلة، وفي الزاوية الأخرى لاحظنا تمثالا آخر في نفس وضعية التمثال الأول وكأنهما حارساها، غير أن وجه الاختلاف يكمن في أن يد هذا التمثال مكسورة، ولم يتم إصلاحه، ما أفقده جماله. وفي هذا الإطار، قال “محمد” أحد سكان الحي بأن مصالح البلدية عاينت المكان أكثر من مرة بناء على طلب من السكان، من أجل ترميم بعض العمارات الآيلة للسقوط، إلا أنها لم تعر اهتماما ببعض التحف المعمارية الموجودة في هذه البنايات، رغم أن هذا المكان يتوافد عليه السياح يوميا من أجل التقاط الصور. وهو الأمر الذي دفع ببعض العائلات المقيمة بها إلى إحضار مختصين لتصحيح العيوب، وتركيب البلاط في المدخل الرئيسي للعمارة على حسابهم الخاص، أما العائلات ذات الدخل المحدود بقيت عماراتها في وضعية متدهورة. انتقلنا بعدها إلى شارع عبان رمضان ودخلنا إحدى العمارات، أبهرتنا جدرانها المزركشة، وعندما سألنا أحد قاطنيها قال لنا بأن أغلب شققها مكاتب للخواص وهم من يقومون بالسهر على نظافتها لاستقبال الزبائن. وعلى بُعد بضع خطوات من العمارة الأولى، دخلنا عمارة ثانية بنفس تصميم الأولى، وجدناها في حالة يرثى لها، أوساخ متناثرة هنا وهناك، جدران مهترئة، أسقف مشققة، معالم أثرية ومعمارية كالموزاييك الموجود على الأرضية محفورة، منحوتات مكسورة وزخارف مصنوعة من الجبس محطمة عن آخرها، منظر يقشعر له البدن وتدمع له العين. وهنا أعرب بعض سكان العمارة عن استيائهم للحالة المزرية التي آلت إليها المباني وخاصة تلك التي تحمل معالم تاريخية من المفروض المحافظة عليها وحمايتها من الاندثار. بنايات كولونيالية مرمّمة بالاشتراكات وعند وصولنا إلى شارع ديدوش مراد، أحد الشوارع العريقة بالعاصمة، تأملنا بعض المباني التي استقطبت أنظارنا من الوهلة الأولى، غير أنه استحال علينا معاينة كل العمارات لكثرة عددها. دخلنا إحداها فوجدناها نظيفة، إلا أن هندستها المعمارية كأنها جسد معاق، يعاني من فقدان أحد أعضائه، أيادي ورؤوس تماثيل مكسورة أو منزوعة وغيرها من التحف. وفي هذا الشأن، قال عمي كمال، أحد أقدم سكان العمارة، إنه يقوم رفقة جيرانه بتخصيص مبلغ شهري ووضعه في صندوق الخزينة الذي يتولى أحد المواطنين أوكلت له مهمة ترميم وصيانة كل عطب أو تلف تتعرض له البناية وكذا طلاء الجدران وتنقية المصاعد وغيرها من الأمور. أما فيما يخص الزخارف والنقوش والمنحوتات التي تعود إلى الفترة الاستعمارية قال محدثنا “بأنها ليست من اختصاصنا، فهي من اختصاص الدولة والجهات المعنية بذلك ولا يمكن التصرف فيها، لأن تصاميمها منفردة والمادة المصنوعة منها غالية الثمن وتتطلّب خبيرا في التراث أو مصمم من أعلى مستوى، وليس بنّاء أو صانع سيراميك عادي”. وفي هذا الشأن، كشف ديلمي، رئيس لجنة الثقافة بأن هناك بعض المواقع الأثرية ذات تصاميم جميلة تتميز عن باقي البنايات الأخرى غير مصنّفة ضمن التراث العالمي، كمقر بريد الجزائر المركزي الذي يمتاز بطراز إسلامي ومقر الاتحاد العام للعمال الجزائريين بالعاصمة، مشيرا إلى أنها ملك للإنسانية جمعاء ويجب المحافظة عليها بتخصيص ميزانية لترميمها وصيانتها. من جهته، أفاد المهندس المعماري، بوكوردان محمد بأن بعض المواقع والبنايات التي تنفرد بتصاميم خاصة، باعتبارها تراث إنساني يجب المحافظة عليه، إلا أن الكثير منها تعرضت للإهمال، إضافة إلى العوامل الطبيعية كالزلازل والفيضانات وغيرها من الأمور. وفي السياق ذاته، دعا محدثنا المسؤولين المحليين لضرورة الاهتمام بهذه الآثار التي تمثل هويتنا وذلك بترميم بعض أجزائها، لكي تبقى تاريخا للأجيال الصاعدة.