المشاورات حول الاصلاحات السياسية في الجزائر لا تثير الضحك فقط بالنظر إلى نوعية المشاركين في هذه المشاورات! أو بالنظر إلى من أسندت إليهم مهمة إدارة هذه المشاورات.. بل الضحك ينصرف أيضا إلى نوعية القضايا المطروحة في هذه المشاورات! فقد سمعنا أن أغلب الذين تمت استشارتهم ركزوا في اقتراحاتهم على مسألة تحديد العهدة الرئاسية للرئيس.! وعلى مسألة إلغاء المادة الخاصة بالاسلام.. والمادة الخاصة باللغة الرسمية! ولا حديث عن المسائل التي تتعلق بالمؤسسات وعلاقتها ببعضها البعض.. ونوعية الحكم الذي نريده بالدستور. أنا شخصيا لا يهمني أن يبقى رئيس ما في الحكم أكثر من عشر سنوات بل يهمني كثيرًا ماذا يفعل بالسنوات التي يقضيها في الحكم! مبارك بقي 30 سنة في الحكم وفعل ببلاده ما فعل, والقذافي بقي في الحكم 42 سنة وفعل بليبيا مافعل.. وعلي عبد الله صالح بقي في الحكم 30 سنة.. وأنتم ترون ما يحدث في اليمن. لكن بالمقابل بقي ماهاتير محمد في حكم ماليزيا ما بقي ولم يفعل بماليزيا ما فعل حكام العرب ببلدانهم.. وبقي أردوغان في تركيا ما بقي في الحكم وترون الحالة التي أصبحت عليه تركيا! إذن فالعبرة ليست في المدة التي يبقى فيها الحاكم في الحكم بل العبرة فيما يفعل هذا الحاكم بالحكم طوال هذه المدة.. طالت أم قصرت! ما أفهمه من حكاية تقصير المدة للرئيس هو التسليم بأن الرئيس عندنا يبقى “كارثة” محتمة علينا, وكل ما يمكن أن نفعله هو أن نقلص عهدته بالدستور! وعلينا أن نتحمله في عهدة قصيرة كالكوارث الطبيعية, مثل الزلازال والأعاصير والفيضانات! مثل هذا الفكر المسطح في الحوار حول المدة التي يقضيها الرئيس في الرئاسة, وليس حول ما يفعل بهذه المدة, هو الذي جعل الدستور يعدل وفق أهواء كل رئيس ويفصل على مقاسه كل مرة طوال 50 سنة عبر تغيير الدستور 5 مرات! أي أن الدستور يغير أكثر من تغيير الرؤساء أنفسهم..! هل يعقل مثلا أن رئيسا واحدا يغير الدستور مرتين ولا يتغير هو, كما حدث ذلك مع الشاذلي.. وحدث مع بوتفليقة؟! نحن نريد دستورا لا يحنط نفسه في عدد العهدات.. ويحنط البلاد تحت سلطة الرئيس حتما ولو كانت عهدته محددة وقصيرة, نريد دستورا يضع حدا لحكم الحاكم متى تبين أنه لا يقدم شيئا للبلاد أو عجز عن تقديم ما وعد به الناخب.. حتى ولو لم يكمل الحاكم عهدته الأولى أو حتى سنته الأولى.! لماذا وضعت حكاية الانتخابات المسبقة في الدساتير الغربية ذات الديمقراطيات القيادية في العالم؟! نريد دستورا يعطي الشعب حقه في عزل الحاكم متى شاء والإبقاء عليه إلى ما يشاء, وأن يتم ذلك عبر مؤسسات دستورية حقيقية وليس مؤسسات واجهة! نريد دستورا يضع حدا لاجتماع أهل الحق الإلهي في تعيين الحكام ويقررون ما يشاؤون ثم يخرجون على الشعب بما اختاروا.. ليقوم الشعب بعد ذلك بتزكية ما اختاروا أو يضرب رأسه في الحائط! نريد دستورا يسمح بتقديم الحاكم إلى القضاء وهو في الحكم إذا ثبت انحرافه, وليس الحاكم الذي “يحڤرة” القضاء فقط عندما يغادر الحكم! نريد دستورا يسمح للشعب بتنظيم نفسه في أحزاب موصلة للسلطة وليس الدستور الذي ينصب وزارة الداخلية هي التي تسمح لمن تشاء بالوصول إلى السلطة.. الداخلية هي التي تمثل إرادة الشعب وليس الشعب هو الذي يمثل إرادته عبر منتخبيه في الهيئات والمؤسسات! لا نريد دستورا يبقي على الحالة الراهنة للهوان السياسي الذي يجعل من أشباه البشر قادة أحزاب يفرحون عندما يستدعون إلى إبداء آيات التأييد والمساندة لما يقرره المقررون خارج إرادة الشعب! نريد دستورا يجعل مسألة بناء البلد وتطويره ساحة للمنافسة السياسية, وليس الجهوية والولاء والصحبة والدين واللغة والمنافع هي أدوات الفرز بين البشر في سياق السباق إلى السلطة! لقد كان الجزائريون في الثلاثنييات والأربعينيات يجعلون من مسألة الاستغلال الوطني هي الفيصل في الوطنية بين الجزائريين.. فلماذا لا نجعل نحن الآن مسألة بناء البلد هي الفيصل بيننا في قياس الوطنية؟! هل يعقل أن يحكم البلد حكام يعتبرون أنفسهم أجانب في الجزائر؟! أملاكهم خارج البلد وأولادهم خارج البلد وحساباتهم المالية خارج البلد.. وعندما يغادرون الحكم يغادرون البلد! الإصلاح الذي نريده للدستور وغير الدستور, هو وضع السلطة, كل السلطة, تحت السلطة الشعب, وليس الدستور الذي يضع الشعب ومؤسساته تحت سلطة الحاكم كما حدث ويحدث حتى الآن.! نريد إصلاحا أو ثورة تؤدي إلى إنشاء برلمان ليس فيه الأشكال التي يتم اختيارها من قبل دوائر الفساد ثم نفرض على الشعب في انتخابات صورية مزورة! نريد حكومة تخاف من سلطة الشعب وليس حكومة تخاف ممن يخيف ويرعب الشعب طوال 50 سنة! نريد قضاء قضاؤه القضاء بين الناس وليس قضاء هدفه القضاء على من يطالب بعدالة القضاء! وأعتقد جازما أن الشكل الذي تجري به هذه المشاورات (الإصلاحية) ونوعية البشر الذين يستشارون في الأمر ونوعية الموضوعات التي تثار في هذه اللقاءات, لا تختلف عن المشاورات التي كانت تقوم بها أجهزة الدولة في السنوات الخوالي.. والتي أدت إلى الخلاء الذي نحن فيه الآن! والمطلوب هو تغيير الموضوع وتغيير الذين يناقشون هذا الموضوع.. إذا أردنا بالفعل أن نتجاوز بالبلاد المحنة التي تعيشها الآن, والمرشحة لأن تتعاظم مع وجود مثل هذه الأساليب في معالجة هذه المحنة!