بدا حزب العدالة والتنمية، وخصوصاً بعد فوزه الثالث بأغلبية كبيرة، نموذجاً يمكن أن يحتذي به الإسلاميون العرب . ولا ريب أن هذا الحزب ذا الجذور الإسلامية، استطاع أن يتخطّى الكثير من الصعاب والتحديات، وأن يفرض نفسه على الساحة من خلال برامجه التي حققت لتركيا العديد من الإنجازات على الصعيد الاقتصادي بصورة خاصة . فلقد كان لتطبيق تلك البرامج أثر كبير في النمو الاقتصادي وازدهاره، وارتفاع متوسط دخل الفرد، والارتقاء بالمستوى المعيشي، وقد كان ذلك محل رضا وارتياح كبيرين في الداخل التركي . وعلى الصعيد السياسي حققت سياساته واستراتيجياته بروزاً قوياً لتركيا على الساحة الإقليمية، وحضوراً كبيراً على الساحة الدولية . ومعروف أن هذه السياسات والاستراتيجيات فتحت آفاقاً أوسع للتعاون على صعيد المنطقة، وجعلت تركيا أكثر قوة وثقلاً . ولا ريب أن ذلك يرفع رصيدها في حسابات موازين القوى سواء في انفتاحها على دول المنطقة، أو سعيها الذي مازال قائماً للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي . ومن نافلة القول الإشارة إلى أن حزب العدالة والتنمية قد درس منذ البداية التجارب السابقة لأحزاب إسلامية في تركيا، كما درس الواقع التركي ومكوناته ومرتكزاته بدقة . ورغم أخذه الحيطة والحذر في تعامله مع الشأن العلماني، فإن بعض التصريحات التي صدرت من بعض قياداته في وقت من الأوقات، كادت أن تصل بالحزب إلى حافة الخطر عندما استثمرها العلمانيون المتطرفون والعلمانيون الأتاتوركيون الذين ناصبوا حزب العدالة والتنمية العداء، باعتباره حزباً إسلامياً يعادي العلمانية الأتاتوركية، وهي ركيزة الدولة التركية . وإذا كان كثيرون في الساحة العربية ينظرون إلى حزب العدالة والتنمية باعتباره نموذجاً أحق بأن يحتذى من قبل الأحزاب الإسلامية، فإنه يجب ألا يغيب عن البال أن حزب العدالة والتمنية يلتزم العلمانية التركية ولا يتصادم معها ويقبل مناهجها، بل ويقبل بالعديد من المفاهيم التي تشترطها معايير الاتحاد الأوروبي التي قد تكون متعارضة مع مضامين دينية، وذلك شأن السياسة، فهو حزب سياسي لا يتبع منهجاً دينياً أو أيديولوجية دينية . ومن اللافت للنظر أنه إذا كان العلمانيون الأتاتوركيون قد نظروا إلى حزب العدالة والتنمية باعتباره حضوراً جديداً للعثمنة، فإن البعض على الساحة العربية قد رأى في سياساته الانفتاحية على المنطقة، محاولة لإعادة دور الهيمنة التركية التي تمثلت في عهد الخلافة العثمانية . وإن كان كثيرون على الساحة العربية قد رأوا في أردوغان وبعض مواقفه الجريئة تجاه الأحداث في المنطقة، وخصوصاً العدوان الصهيوني البشع على غزة، وإدانة ما ارتكبه العدو الصهيوني من جرائم، مثلاً كان غائباً عن الساحة العربية . وإذا كان ربيع الثورة الشبابية العربية قد هبّت نفحاته على المنطقة، فقد رأى حزب العدالة والتنمية أن نهجه كان أحد عوامل إرهاصاته، وأن انتصاره هو انتصار للمنطقة وما يدور فيها من حراك سعياً إلى الديمقراطية الحقيقية . مع أن هذا الربع العربي قد هز في نظر البعض صورة القيادة التركية بسبب تباين مواقفها إزاء الحراك السلمي الشعبي في مواقع مختلفة من الساحة العربية . وهنا يجدر التأكيد مرة أخرى أن حزب العدالة والتنمية يمارس السياسة بما تقتضيه متطلبات المصلحة العليا لتركيا، مع الحرص ما أمكن على الاحتفاظ بقدر من الصدقية في القول والممارسة . فهل الأحزاب الإسلامية على الساحة العربية قادرة على ممارسة السياسة بعيداً عن الطرح الديني أو النهج الديني أو الأيديولوجية الدينية والالتزام بمدنية الدولة؟ لعل كثيرين على الساحة العربية يبدون توجساً وريبة من صعود الإسلاميين في مصر ممثلين في حزب الحرية والعدالة الذي بدا قريباً من حيث المسمّى من حزب العدالة والتنمية التركي، وكذلك حزب النهضة في تونس الذي حقق فوزاً كبيراً في انتخابات المجلس التأسيسي، بحكم أنهما الأكثر تنظيماً إزاء أحزاب معارضة هامشية، أو أحزاب جديدة في طور التشكّل وليس أمامها متسع من الوقت لترسيخ حضورها على الساحة . ومبعث الريبة والتوجس أنهما مع تأكيدهما الالتزام بمدنية الدولة واحترام حرية العقيدة، فإنه ليس في سجلهما ما يمحو تماماً أي ريبة أو توجس من احتمال استثمار الطرح الديني والالتزام بالأيديولوجية الدينية . ويظل القلق حاضراً لأن الدولة المدنية غير حاضرة بوضوح في أدبيات الحركات الإسلامية على الساحة العربية، ولذلك فإن أي حزب منها لا يمكن أن يكون في موقع حزب العدالة والتنمية إلا إذا حذا حذوه تماماً والتزم بمدنية الدولة ونأى عن الطرح الديني أو الأيديولوجيا الدينية .