إن ديننا الإسلامي الحنيف دين قامت دعائمه الأولى على أساس أخلاقي قويم؛ بل إن الهدف الأول والأسمى من دعوة محمد – صلى الله عليه وسلم - هو تتميم ذلك البنيان، وترسيخ ذلك الأساس والسمو به إلى ذروة تمامه وكماله. قال – صلى الله عليه وسلم - : “إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”. ووصف الله نبيه الكريم بالخلق العظيم فقال: “وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ” (القلم: 4). ولقد جاء الإسلام لإسعاد الناس وصلاحهم، وليس لقهرهم وإكراههم، والمسلم إنسان حساس يراعي مشاعر وأحاسيس جميع الناس، فهو يتمتع بدرجة عالية من الإحساس والتأثر وهو صاحب قلبِ حيّ نابض، وينعكس ذلك كله على سلوكه وتصرفاته. ولقد وضع الإسلام كثيراً من المبادئ والأسس التي من خلالها تُصان المشاعر وتراعى الأحاسيس، ومن هذه المبادئ: الالتزام بأدب الحديث فقد أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالرفق واللين في القول فقال سبحانه : “فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ” (آل عمران :159). وأمرنا بذلك فقال : “وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً” (البقرة:83). وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء”. ولقد ضرب النبي – صلى الله عليه وسلم –أروع الأمثلة في حسن مراعاة مشاعر الناس وأحاسيسهم، وروت لنا كتب السنة والسيرة نماذج رائعة في ذلك منها : ما رواه ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حين تحدث عن قوم يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب ،فقام عكاشة بن محصن فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال: “أنت منهم”. ثم قام رجل آخر فقال: ادع الله أن يجعلني منهم. فقال:”سبقك بها عكاشة”. َقَالَ الْقَاضِي عِيَاض : قِيلَ: إِنَّ الرَّجُل الثَّانِي لَمْ يَكُنْ مِمَّنْ يَسْتَحِقّ تِلْكَ الْمَنْزِلَة وَلَا كَانَ بِصِفَةِ أَهْلهَا بِخِلَافِ عكاشة، وَقِيلَ : بَلْ كَانَ مُنَافِقًا فَأَجَابَهُ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَلَامٍ مُحْتَمَل، وَلَمْ يَرَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّصْرِيح لَهُ بِأَنَّك لَسْت مِنْهُمْ لِمَا كَانَ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ مِنْ حُسْن الْعِشْرَة. عدم جرح مشاعر المخطئ إن الاستعجال في إصدار الأحكام على الآخرين أمر ممقوت يعرض صاحبه للزلل والخطأ والوقيعة في الآخرين، وهو مخالف أيضاً للمنهج الرباني الآمر بالتثبت والتبيّن والتبصّر، كما أنه بعيد عن منهج الإسلام في العفو عن المسيء وقبول عذر المعتذر. وفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نماذج رائعة تؤكد ذلك منها: ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد، فقال : انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب فخذوه منها، فائتوني به، فخرجنا حتى أتينا الروضة، فإذا نحن بالظعينة، فقلنا : أخرجي الكتاب . قالت : ما معي كتاب . قلنا : لتخرجن الكتاب أو لتلقين الثياب، فأخرجته من عقاصها فأتينا به النبي صلى الله عليه وسلم فإذا فيه من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر النبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا حاطب ؟ قال : لا تعجل علي يا رسول الله، إني كنت امرأ ملصقا من قريش، ولم أكن من أنفسها، وكان من معك من المهاجرين لهم : قرابات يحمون بها أهليهم وأموالهم بمكة، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم أن أصطنع إليهم يدا يحمون بها قرابتي، وما فعلت ذلك كفرا ولا ارتدادا عن ديني فقال النبي صلى الله عليه وسلم : صدق، فقال عمر : دعني يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأضرب عنقه، فقال إنه شهد بدرا وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم. فالمخطئ قبل أن نعاتبه أو نحاسبه لا بد أن نتفهم سبب الخطأ، ونلتمس له الأعذار وفي كل ذلك لا بد أن تحترم مشاعره حتى لا يعاند ويصبح الخطأ خطآن.