لا أدري إذا كان عدد المقاتلين الليبيين في سورية كبيرا. فما تنامى إلى العلم هو أن بعضا منهم غادروا بلادهم، بعد أن أعدموا السيد القذافي وهدموا دعائم دولته. قصدوا إلى سورية لنصرة الانتفاضة المسلحة ضد نظام الحكم فيها. سمعنا أيضا أن جماعات من ”القاعدة” فعلت نفس الشيء فانتقلت من العراق إلى سورية. يقول الروس أن خمسة عشر ألفا من غير السوريين دخلوا إلى هذه البلاد أيضا أو يرابطون على حدودها لدعم المتمردين. وفي المقابل نشرت بعض وسائل الإعلام أنباء تفيد بأن لدى المخابرات الأميركية أدلة على أنه من المرجح أن تكون عناصر من ”القاعدة” هي التي دبرت التفجيرات في شوارع دمشق وحلب. يتساءل المرء عن الأسباب التي تحدو هذا ”النوع” من المقاتلين، وقد زعم البعض أنهم ”ثوار”، على الارتحال بين الأقطار العربية وكأن الفوضى ورائحة الموت تجذبهم. من المعروف أن الولاياتالمتحدة الأميركية وحلفاءها في الغرب، وأعوانها أمراء وملوك النفط، جندت في سبعينيات القرن الماضي، جهاديين عربا للثورة على سلطان الكفرة. كانت أفغانستان المختبرَ، وأولَ الساحات التي خاضوا فيها ضد الإمبراطورية السوفياتية وكان الهرم قد أوهنها، فعجّلوا أنهيارها. وما أن تهاوت دولة الأفغان وعاثت فيها العصابات حتى بدا أن ”المجاهدين” الذين أجرهم أمراء وملوك السعودية والخليج، أنفذوا مهمتهم. ولكن لم يمض وقت طويل قبل أن تظهر أعراض ”المرض الأفغاني” في بعض الأقطار التي كان ”المجاهدون” قد خرجوا منها إلى أفغانستان. من المحتمل أنهم عادوا إلى بلادهم الأصلية ونقلوا معهم العدوى، أو أنه ُطلب منهم أن يكونوا ركائز أو ”قاعدة” لدعائم مشروع جهادي يتجاوز مضمار قتال الكفرة والمرتدين إلى أسر الدين واستخدامه غشاوة على الأبصار والقلوب. وأغلب الظن أنه لولا الشعور الوطني القوي المتجذر في التربة الجزائرية التي اختضبت بدماء مناضلي حرب التحرير الوطنية ضد الاستعمار الاستيطاني الفرنسي لما أستطاع المجتمع الجزائري مقاومة الحمى التي تفشّت به، كصدى لخراب أفغانستان. لست هنا بصدد تفصيل مفهومية للدين أو عرض رأيي في موضوع الإيمان وانعكاساته في سلوك المؤمن ومعاملاته، وإنما أنا في مجال النظر والتفكّر والتساؤل في النتائج التي اسفرت عنها حتى الآن حروب وثورات الجهاديين. وبكلام أكثر وضوحا، هل أنجز الجهاديون الليبيون المهمة التي تنشّطوا لها في ليبيا، قبل أن يتوجهوا نحو بلاد الشام. ولنفترض أنهم تمكنوا في هذه البلاد وحطّموا دولتها كما فعلوا في ليبيا، فماذا سيفعلون بعد ذلك إذا كان البناء القائم لا يرضيهم، فعملوا على اقتلاعه وإزالته، ألا يحق سؤالهم قبل أن يغادروا، عن الذين سيبنون من بعدهم وكيف ولمن واستنادا إلى أي رسم ؟؟؟ أم أن غايتهم امتحان الناس وإجبارهم على أن يهيموا على وجوههم ويناموا في العراء، فتوسلوا تحريف الكلام وقالوا مع المعري: ”والأرض للطوفان مشتاقة لعلها من درنِ تُغْسلُ ”. ولكنهم في الواقع أكثر قربا إلى المحافظين المتصهينين الذين يسعون إلى نشر الفوضى، لأن الغطرسة جعلتهم يظنون أن ”الفوضى خلاقة” وأنهم الأقوى والأقدر على توظيفها في تدعيم نفوذهم وخدمة مصالحهم. هل أن الوضع في ليبيا مقبول الآن، أو أنه يمثل أقصى ما كان يبتغيه الجهاديون الذين ساروا إلى بلاد الشام ؟ ولا منأى في هذا السياق عن التنبيه إلى الضبابية والبلبلة اللتين تعتريان الجدل المحتدم حول الأزمة في سورية، حيث تختلط المواقف وتُعيق الغوغاءُ السبيلَ إلى المنطق. إذ من البديهي أن الحركات الإسلاموية والسلفية والأصولية والوهابية، إلى ما هنالك من مسميّات تكاثرت في هذا الزمان، هي دليل على اضمحلال الفكر والاغترار بأموال النفط التي تأتي من غير تعب. فمن نافلة القول أن هذه الحركات صادرت الدين واستخدمته لإضفاء مصداقية على خطابها إلى جموع الناس من جهة ولإقناع أصحاب النفوذ من جهة ثانية بقدراتها على التأثير والفعل. وجملة القول أن هذه الحركات هي نقيض للإبداع والتطوير والتجديد، بل هي تمثل العقم بعينه. فلقد استولت على النص الدينا وتسلحت به حتى تاريخ ليس ببعيد، لمعاونة نظم الحكم الرجعية والدوائر الاستعمارية، ضد الأحزاب والفصائل والمنظمات التقدمية الوطنية. وها هي من خلال الوثائق التي يصدرها في الراهن الإخوان المسلمون في مصر وسورية وتونس، تحاول تسويق ”إسلام مخفف” أمام الغرب من جهة وتطرح برامج يخيل للمتلقي أنها مأخوذة حرفيا من أدبيات الأحزاب الوطنية التي حاربتها وتآمرت عليها بالأمس أمام الناس من جهة ثانية. وبلغت بها الوقاحة حدا جعلها لا تتعفف عن سرقة أغاني وألحان هذه الأحزاب أيضا. تؤاخذ الأحزاب الوطنية نظام الحكم لأسباب تختلف جوهريا عن تلك التي يتأتى عنها توتر في علاقاته مع الدول الاستعمارية من جهة والدول الرجعية من جهة ثانية، بصرف النظر عن دور هذه الدول فيما مضى في التنسيق معه وفي حوطه بشيء من الرعاية والتسامح. ينبني عليه أن النضال الوطني ضد سياسة نظام الحكم إذا أخطأ هذا النظام أو انحرف أو طغى، تتميز من حيث الوسائل والقصد، كليا من الحرب والغزو والأعمال الإرهابية التي يلجأ إليها المستعمرون وأتباعهم الرجعيون عندما تتطلب مصالحهم استبدال الأشخاص على رأس نظام الحكم، دون تغييره أو بالأحرى منعا لذلك؟ تأخذني وأنا أتابع سير الأحداث الدهشةُ وأقع في ريبة عندما ألاحظ كيف أن الغيارى على السوريين من المثقفين والكتاب و”التقدميين واليساريين” السابقين، يحضّون باسم العدالة والنزاهة والحرية والأخلاق الحميدة والحق بالمشاركة السياسية الديمقراطية، على الانضمام إلى حملة ضد نظام الحكم السوري، تداعى إليها أمراء السعودية والخليج والولاياتالمتحدة الأميركية والحكومات الغربية، وكأنهم استنفِروا جميعا لجهاد. فهل يساور البعض شك في أن انتصار الولاياتالمتحدة الأميركية وأمراء ”الاعتدال” على نظام الحكم في سوريا لن يكون انتصارا لا للسوريين والقضية العربية ولا للقيم والمناقب أيضا ؟ ولكن في أغلب الظن ”أن الشرائعَ ألقتْ بيننا إحَناً وأودعتْنا أفانينَ العداوات ِ”. خليل قانصو فرنسا 25 03 2012