هل سأل أحد نفسه: كيف يصل الحكم إلى الأشخاص وكيف يفلت من بين أيديهم؟ ولماذا تعتز الشعوب العربية بأمواتها ولا يعنيها من يتولّى شؤونها الآن؟ هل سأل أحد منّا نفسه: لماذا نستنجد بالأموات لتحرير القدس مثل صلاح الدين الأيوبي، ولا نستنجد بالرئيس الإيراني وهو الحاكم الوحيد في الوطن العربي والإسلامي الذي يحمل شعار زوال إسرائيل ويدافع علناً عن مبدإ فناء الدولة العبرية؟ * * ما خفي كان أعظم؟ * * البعض من الرؤساء والملوك العرب هنّأوا إسرائيل بالذكرى ال60 لميلادها على أنقاض الشعب الفلسطيني، مثلما ولدت أمريكا على أنقاض الهنود الحمر. والحفلات التي أقيمت في السفارات الإسرائيلية في أقطارنا العربية، وحتى في مكاتب الاتصال يلخصها فيلم عادل إمام »السفارة في عمارة«، لكن الصوت الوحيد الذي كان نشازا هو صوت الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد وهو يدافع عَلَناً عن زوال وفناء الدولة العبرية، والكثير من الملوك والرؤساء والزعماء العرب انتقدوا تصريحاته. * لو كانت المنظومة التربوية العربية فيها جزء من تاريخ فرنسا في الجزائر، بدءاً من احتلالها للجزائر عام 1830م مرور باحتفالها بالذكري المئوية للجزائر الفرنسية عام 1930، وانتهاء بطردها من الجزائر عام 1962 بعد قرن و32 سنة، لما تجرّأ زعيم واحد على زرع الإحباط لدى الجيل الصاعد. * لو ولدت حركة حماس في غير حركة الإخوان المسلمين، لما تجرّأ أحد من قادتها على عدم المطالبة بزوال إسرائيل من الوجود. * إن الحكام العرب والمسؤولين الفلسطينيين يريدون تكريس وجود دولة افتراضية لشعب فلسطين فوق ثلث أرضة المغتصبة، ويخافون من دعم المقاومة في فلسطين ولبنان والعراق والصومال وغيرها من الأقطار العربية التي بدأت مرحلة الانهيار الكامل. * جوهر المشكل في الأقطار العربية هو مبدأ »توريث الحكم والوطنية«، لحاشية الحاكم، وبالرغم من اختلاف الأنظمة فإنها متفقة على وصف كل من يعارضها أو يقاوم عبثيتها ب »العميل، والمأجور والخائن« وتجريده من حقه في المواطنة، وهي تتقاطع مع جماعات التكفير والهجرة في التيار الإسلامي والإنجيليين في التيار المسيحي. * ومن يتوقف عند الطريقة التي أوصلت هذا الشخص إلى الحكم عبر نظام ملكي أو جمهوري أو قبلي أو طائفي أو »اللاّأدري«، على حد تعبير أحد شعراء تونس، سيجد أن معظم من وصلوا إلى الحكم جاءوا عن طريق الصدفة أو صاروا زعماء بالصدفة، فالحكم في وطننا العربي هو الذي يبحث عن الحاكم، والزعامة هي التي تبحث عن الزعيم وليس العكس. * ولعل هذا ما يجعلنا نؤمن بوجود انفصام ما بين الأنظمة العربية والشعوب العربية، فالذي يدعو اللبنانيين إلى انتخاب الرئيس والانتخابات محرّمة في بلده هو مجرد حاكم افتراضي، والأحزاب التي تحتج على تجاوزات السلطة لها في الأنظمة الملكية أو الأميرية، هي أحزاب افتراضية، والأحزاب التي تشكل تحالفا من أجل البقاء في السلطة هي أحزاب افتراضية. * لو كانت لنا أحزاب مثل الحزب الجمهوري والحزب الديمقراطي في أمريكا تنتخب مرشحيها للرئاسيات في سباق ماراطوني، وبرامج واضحة لربما تجاوزنا الصدف التي تهدي الحكم والزعامة إلى أصحابها. * * وهم »الصدفة«؟ * * * ويخطئ من يتصور أن الدخول إلى التاريخ يكون عبر بوابة الحكم أو المال، ويخطئ من يتصور أن الشهادة أو الوظيفة تجعل صاحبها مفكرا، ويخطئ من يتصور أن من يلتحق بالسلك الدبلوماسي هو دبلوماسي. * لكن قد يصدق القول من يزعم أن الصدفة، في الوطن العربي، أنشأت لنا جيشا من »الزعماء والخطباء« والملوك والرؤساء والأمراء وملوك الطوائف، فهناك أقطار عربية سميت بأسماء من يحكمونها، وهناك أقطار عربية لا تستطيع أن تتحمل حتى قنوات صرف المياه وهناك وهناك وهناك... * لكن سأتحدث عن الجزائر حتى لا أتهم بالشوفينية، فتاريخها حافل ب»توريث العروش« و»توريث الوطنية«. فالذين يدافعون عن الأمازيغية يريدون توريثنا اللغة الفرنسية، لأن رموز منطقتهم هم من جمعية العلماء المسلمين، والذين يريدون »توريث الجهاد« لمناطقهم هم الذين كوّنوا لنا »جيشا من المجاهدين المزيفين« ولأنهم أرادوا تشويه المجاهدين ومحاربتهم فقد أنشأوا لنا (مجاهدي 19 مارس 1962)، ومنحوا المجاهدين بعد تسريحهم من الجيش شهادة استفادة من فتح حانات، ونساء الشهداء »شهادة طاكسي« واليوم صاروا يتحدثون عن منظمات جديدة ل»أبناء أبناء المجاهدين« و »أبناء أبناء الشهداء«. * إنني من أبناء الشهداء ولكنني لم أنخرط حتى الآن في أي تنظيم سياسي أو جمعوي، ولكن الصدفة جاءت ذات يوم لأجد نفسي مع مجموعة تنشئ ما يسمى ب(الأسرة الثورية) لدعم عودة المرحوم محمد بوضياف ولكنني اكتشفت أننا مجرد »لعبة« في أيدي من قتلوا بوضياف فانسحبت. * والحق يقال أنني لا أستطيع أن أقبل أن تورّث الوطنية بالدم، لأن هذا المفهوم سيجعلنا نازيين، فأبناء الخونة وعملاء الاستعمار الفرنسي لا يمكن أن نحاسبهم، بجرم آبائهم، وليس أبناء الشهداء أو أبناء المجاهدين كلهم يؤمنون بالثورة، فهناك من أخذوا جنسيات فرنسية، ولهذا فالمواطنة هي البديل الوحيد »لتوريث الجهاد والوطنية والإسلام«، فالكاهنة لم تورّث أبناءها كفرها أو جهلها، وإنما دفعتهم إلى صفّ الشهيد عقبة بن نافع، وكسيلة لم يخرج عن الإسلامي وإنما انتصر لعادات الجاهلية فالتحق بالكاهنة. * ليس صدفة أن يكون كسيلة إلى جانب أبودينار المهاجر، وليس صدفة أن يحرره من سجن عقبة ولا يقبل أبودينار أن يكون في صف من يقف ضد عقبة بن نافع الفهري، ولكن الصدفة هي التي حوّلت أحمد بن بلة إلى رئيس للجناح المسلح لحزب الشعب خلفا لحسين آيت أحمد، بسبب ظهور »حزب الشعب البربري« داخل حزب الشعب. * والصدفة هي التي جعلت من محمد بوخروبة من مجرد طالب علم بجامع الأزهر بالقاهرة أحد عناصر طاقم سفينة الملكة الأردنية »دينا« المحملة بالأسلحة وهي تحط بالسواحل المغربية، والصدفة هي التي جعلت رئيسا لأول محكمة عسكرية، في عهد الحكومة المؤقتة تصدر حكما بالإعدام في حق »جماعة لعموري«، والصدفة هي أن هذه المجموعة عقدت اجتماعها في طرابلس في بيت سالم شلبك، أحد الأوفياء للثورة حيث لاحظ أنهم يتحدثون بالشاوية حول تخطيط للانقلاب على الحكومة. أوَليست الصدفة أن يكون سالم ممن يعرف الأمازيغية ويبلغ القيادة بتحرّكهم. * والصدفة تكررت حين زار ممثل قيادة الجيش السجناء الخمسة في باريس واقترح على بوضياف أن يكون رئيسا فرفض بحجة أنه ضد الانقلاب على الثورة، وشاركه الرأي نفسه حسين آيت أحمد، أما أحمد بن بلة فقد اقترح نفسه على قيادة الجيش، حسب ما رواه لي شخصيا ممثل قيادة الجيش وهو مايزال حيّا يرزق. * والصدفة هي التي جعلت مصطفى الأشرف يكون الزعيم الخامس مع محمد بوضياف، محمد خيدر، أحمد بن بلة، حسين آيت أحمد أثناء اختطاف الطائرة عام 1956. * لأن مصطفى الأشرف عالم اجتماع ومفكر فإنه كان أول من نبّهنا إلى خطورة الزعامات متحدثا عن المرحوم مصالي الحاج، والصدفة هي التي جعلت حسين آيت أحمد زعيم حزب سياسي عام 1963، حيث اجتمع 17 معارضا لحكومة أحمد بن بلة، وفتشوا عن زعيم لهم، وهم شخصيات مهمة، فاتفقوا على اختيار حسين آيت أحمد لزعامتهم. * والصدفة هي التي جاءت بمحمد بوضياف عام 1992 إلى الحكم، لأن »قادة الانقلاب« لم يكونوا يتوقعون أن يستقيل الشادلي بمجرد الاجتماع معهم، ويحدث فراغا دستوريا، وكان اسم بوضياف يحتل الصحافة بسبب نشاط »الأسرة الثورية« والمطالبة بعودته بصفته أحد زعماء الثورة مثلما أعادت الحركة من أجل الديمقراطية في الجزائر زعيمها أحمد بن بلة، وأعادت جبهة القوى الاشتراكية زعيمها حسين آيت أحمد. * والصدفة هي التي أوصلت الشادلي بن جديد إلى الحكم بعد الخلاف الذي حدث بين تيار بوتفليقة وتيار يحياوي، فكان لقاصدي مرباح قرار تعيينه رئيسا. * والصدفة هي التي جعلت العقيد علي كافي يصير رئيسا، لأنه كان على رأس منظمة المجاهدين وعضو مجلس الدولة الذي كان يرأسه المرحوم محمد بوضياف. * والصدفة هي التي جعلت اليامين زروال رئيسا بعد تعيينه وزيرا للدفاع، فهو الذي ذهب مع مجموعة إلى عبد العزيز بوتفليقة ليقنعه بأن يخلف علي كافي، إلا أن الرئيس بوتفليقة رفض أن يكون مرشحا ل(الأحزاب والجمعيات والمنظمات) المشاركة في ندوة الوفاق الوطني، لأنه كان يدرك أنها من صنع النظام القائم. * والصدفة هي التي جعلت رضا مالك يكتشف أحمد أويحي، وهي التي جعلت الجزائريين يكتشفون »وهم الديمقراطية« أو »وهم الصدفة«. * فهل تستطيع الصدفة أن تدخل من جاءت بهم إلينا »دهاليز التاريخ«؟ وهل يستطيع المؤرخون أن يكتشفوا أسرار الصدف في إهداء الحكم إلى أشخاص قد يكونون غرباء عن شعوبهم؟ * المؤكد أن هذا المقال لم يكتب صدفة وإنما الصدفة هي التي دفعتني إلى كتابتها في مقال. *