الجزء الأول استغرقت رحلتنا المثيرة حوالي 24 ساعة، تنقلنا خلالها بين الجماعات المسلحة برعاية مافيا التهريب التي تكفلت بحمايتنا بالنار والحديد، وعرفنا عددا من الحقائق أهمها أن جميع القوى في مالي تتصارع لفرض نفسها، لكن لا احد يتجرأ على اتباع الأعور، فالقاعدة هي بعبع الجميع وهي المسيطر الفعلي على المنطقة الشمالية التي يتغنى كثيرون بإحكام قبضتهم عليها. شمال مالي: مبعوثة "الفجر" حسيبة بولجنت لا داعي للخوض في مدى صعوبة التنقل الى شمال مالي في هذا الوقت بالذات، لأن الجميع يتعرض لنفس المخاطر، خاصة مع خبر اغتيال الديبلوماسي الجزائري طاهر توات، ولا داعي للحديث عن الطريقة، فكلها محفوفة بالمخاطر ولا تسلم اي منها من سناريو محتمل للقتل، والاهم من كل ذلك أننا غادرنا الاراضي الجزائرية في سرية تامة، تبين فيما بعد اننا كنا تحت مراقبة اعين كثيرة اهدافها مختلفة، منها من تحاول تأميننا ومنها من تسعى لايذائنا. كانت الساعة تشير إلى الزوال، عندما لفحنا صهد الحرارة الشديدة بشمال مالي، وشعرنا ببؤس المنطقة التي بالكاد تلمح فيها بوادر الحياة، فلا الاطفال ولا النساء يتجولون بالمنطقة، ولم نستطع أن نستوعب أن الوقت زوالا ويتجنب كثيرون الخروج، فترسخت لدينا فكرة أن المنطقة خطيرة ولا تنبئ بخير، وتنقلنا بحذر في شوارعها التي لا تحمل اية تسمية، ولاحظنا بنايات غير مكتملة كانت بمثابة حدود لأراضي العصابات التي تخزن فيها ما تسميه ممتلكاتها. وباءت محاولاتنا في العثور على شيئ يوحي بوجود حياة ما بالفشل، وأثار استغرابنا سخرية مرافقينا الذين انتقدوا جهلنا بالمنطقة، فهم على دراية واسعة بأن شمال مالي هو مستودع كبير تتداول فيه مختلف السلع والمواد وكذا الاسلحة والذخيرة بقيمة ملايين الدولارات، ويحقق التجار والمهربون يوميا ثراء فاحشا، ولم نعرف حقيقة ما ينتظرنا إلا والليل يرسل خيوطه الاولى معلنا عن واقع قلما نسمع عنه. قادنا مرافقونا الذين كانوا مدنيين نجهل جنسياتهم الحقيقية، اذا ما كانوا جزائريين او ماليين، الى جماعة تتحدث اللغة العربية، أشرفت على ضيافتنا قبل أن ترسلنا بدورها وبطريقة تشبه افلام الجوسسة الى قائدها الذي حرص على اظهار دعمه للمواقف الجزائرية. وطوال الطريق كان من مررنا بهم يعبرون عن تمسكهم برسالة الجماعة التي ينتمون إليها ويهتفون باسمها وهي الجماعة العربية الازوادية، التي أسست خصيصا لحماية المصالح العربية في اقليم الازواد الذي يسيطر عليه الطوارق، وعلمنا من طريقة الاستقبال أن امرنا قد فضح ولا داعي لإخفاء هوياتنا. الحركة العربية الأزوادية تصارع لإثبات وجودها أكد لنا زعيم الحركة العربية الازوادية "دينا ولد الداي" أن الحركة العربية الازوادية أسست لحماية مصالح العرب في مناطق وجودها خاصة تمبكتو، وحرصت جماعته على تسليح مقاتليها بكل ما يمكنها لحماية تجارتهم من المافيا وقطاع الطرق، كما عملت على تأسيس معسكرات في عدة مناطق من شمال مالي لضمان الدفاع عن اموالهم خاصة وأن اغلب القبائل التي تنتمي إليها، تمتهن التجارة على رأسها قبيلة البرابيش، بما فيها من اولاد غنام واولاد يعيش وأخرى كثيرة، مضطرة لمصارعة الجميع حفاظا على ممتلكاتها، كما عملت على إثبات وجودها كجماعة لا تقل اهمية عن تلك التي تنشط في كل من قاوة وكيدال، وأكد لنا كبير هذه القبائل أن الأحداث المتجددة جعلتهم يفكرون في لمّ شمل المنتمين إليه لصد الخطر الذي امتد الى الجميع. وأوضح في المقابل أن وجود الجماعة لا يعني فتح جبهات حرب مع جماعة انصار الدين، التي قال انه لا تفرقهم عداوة معينة بها، وحتى جماعة الجهاد والتوحيد في غرب افريقيا وكذا القاعدة في بلاد المغرب الاسلامي معتبرا أن عدوهم الوحيد هو الحركة الوطنية لتحرير الازواد ممثلين في الطوارق، ولمح إلى أن الخطر يمكن أن يأتيهم من الحركة باعتبارهم يتقاسمون مناطق مشتركة في شمال مالي وقال انه ولحد الان لم يحدث ان وقعت في اشتباك مع أي منها باستثناء حربها مع الجيش المالي، الذي مكنها من السيطرة على تمبكت وثلاثة ايام متتالية قبل أن تصل الجماعات الجهادية التي جعلتهم يعودون ادراجهم واعتبروا أن فشلهم في المقاومة ليس سببه ضعفهم مقارنة بأتباع شريف ولد الطاهر وإنما لوجود خونة قصموا ظهورهم. وأشار إلى أن الحركة تستطيع تأمين قوافلها وحماية نفسها من مختلف الاخطار بفضل العتاد الذي تتوفر عليه والذي اشترته خلال الازمة في الساحل واستفادت من الاموال الطائلة التي كانت بحوزتها والتي جمعتها من التجارة. شمال مالي الملغّم يسيل لعاب الخارجين عن القانون والمقاتلين وحتى السياسيين قيل لنا ونحن نطأ التراب المالي أن الجماعة المسلحة التي ستستقبلنا مسالمة كونها لا تعادي الجزائر، وتسعى لكسب ودها، وهو انطباعنا الاولي ونحن نقف على امكانياتها التي حرصت على عرضها علينا طوال الوقت وعدد الاسلحة التي بحوزتها وكذا معسكرات التدريب الجاهزة، والتي يشرف عليها "عيسى غولان" وهو المسؤول العسكري الذي تمكن من تجهيز جيش ووجد لنفسه مكانا في منطقة نشاط اخطر التنظيمات المسلحة في العالم، كما أثارت انتباهنا طريقة تعامل امين عام الخارجية في الحركة محمد المولود رمضاني، الذي سهل علينا مهمة التواصل مع حركة بدت وكأنها تنظيم محكم، لولا أن عدد المنتسبين إليها لا يقارن بعدد الطوارق الذي فاق المليونين، مقابل الآلاف في الحركة العربية ومع ذلك أصرت على فرض نفسها كتنظيم ينافس حركة تحرير الازواد، في وقت تفكر هذه الاخيرة في اعادة تنظيم نفسها لمواجهة المسلحين المتحالفين ضدها. لم نشعر بالخطر والخوف، ونحن في قلب مركز تسليح المقاتلين الذين انتشروا بشكل يسمح لنا باستيعاب العدد وإمكانيات الجماعة والتي قيل لنا أن اغلبها منتشر في الصحراء، كما لم نتلمس حقا التهديد الذي يمكن أن يواجه تنظيما نأى بنفسه عن الجماعات الاخرى وجعل هدفه حماية تجارته بالسلاح، كما لا توجد اي نية في محاربة الجماعات الاخرى حتى ولو كانت تسيطر على معاقلها في تمبكتو، وعلى العموم فإن اطيافا عدة تتردد على المنطقة الشمالية لمالي منها من هي مستقرة ومنها من تستثمر في الوضع ولكن سرعان ما تغادر المكان، والاصح أن ما يحدث في مالي حسب الامين العام مكلف باللاجئين عبد الكريم ولد عمر ليس مجرد حرب اهلية سرعان ما تحط أوزارها ويركن الجميع إلى السلم لكن الوضع حسب تعبيره اخطر اضعافا مضاعفة فمالي اضحى بؤرة توتر غير مستقرة وهي تزحف ببطء نحو الدول المجاورة، وأوضح أن السبب في ذلك سياسي بسبب اطماع عدد من الدول في ثروات الشمال المالي التي أضحى الجميع على علم بها وسبق أن اكتشفت فيها آبار للبترول أسالت لعاب الدول التي تتحين الفرصة لاقتسام الكعكة التي اضحت قاب قوسين أو أدنى لنضجها، وفند الناشط السياسي ما يتررد وتروج لها اوساط شكك في مصداقيتها من أن الشمال المالي يفتقر إلى الموارد التي تمكنه من الاستقلال بنفسه، مشيرا إلى ان خبراء في المجال من الخليج العربي كشفوا عن هذه الحقيقة التي قال أن البعض حاول طمسها. مخازن الصواريخ والأسلحة الروسية على بعد كيلومترات فقط من الحدود الجزائرية عندما توغلنا في شوارع شمال مالي التي تبدو خالية من المارة استوقفتنا كتابة بالبنط العريض باللغة العربية "يباع كل شيئ " على حائط إحدى البنايات التي لا يظهر شكلها الهندسي وهي أقرب الى "القوربي"، كانت مجرد محل خال من الانارة بالكاد تلمح ما بداخله استفسرنا عن القصد من كلمة "كل شيئ" فكان الجواب كما توقعناه تماما، كان اهم محل لبيع الاسلحة والذخيرة، وهو أسهل مكان يتوجه إليه عابرو السبيل الذين يجهلون المنطقة ويفتشون عن الاسلحة التي لا تختلف عن الخبز من حيث حاجة السكان إليها. وتنتشر أسلحة الكلاشنيكوف الروسية بشكل مخيف في هذه المنطقة الملغمة والتي لا يمكن أن تمر فيها لحظات دون أن تسمع طلقات رصاص من أي مكان تزداد وتنقص حسب الظروف، ولا يهتم المقاتلون بتضييع الذخيرة في سبيل التباهي بما كسبوه بأبخس الأثمان، فسلاح الكلاشنيكوف لا يساوي اكثر من 5 ملايين سنتيم والعرض فيه يكاد يساوي الطلب، ولا تبعات عن هذا العمل الذي يجري على بعد بعض الكيلومترات فقط من الحدود الجزائرية، لكن الخطر أن الصواريخ الروسية التي تم تهريبها وسرقتها من مستودعات الفذافي والتي يصل عددها إلى الآلاف لم تستخرج بعد من مخازنها تحت التراب ولا تسوق في الوقت الراهن ولا يعلم متى يتم استخدامها وعرضها للبيع. .. يتبع