لو تصدّى الباحثون في سيميولوجيا الصورة والحركة لتلك الحركة التي قام بها وزير الحربية الفرنسي السابق "جيرار لونغي" في حصّة متلفزة، لوصلوا إلى نتائج مهمة يمكنها أن تفضح الوجه الخفيّ للطبقة الحاكمة في فرنسا وطرق تفكيرها وتركيبتها السيكولوجية. وعلى ضوء ذلك يمكن أن نرسم أفق ما ننتظره من فرنسا ونحدّد طبيعة ومستقبل علاقتنا بها. لقد جاءت هذه الحركة بعفوية وتلقائية، يعتقد أن الحصّة انتهت، وأنه لم يعد على المباشر، لذلك فإنها تعبّر بصدق عن حقيقة الموقف الفرنسي في عمومه من الماضي الكولونيالي الذي يمثّل شرفا كبيرا لفرنسا، بعيدا عن الخطاب الرسمي المراوغ الذي يظهر فرنسا في صورة الدولة المتحضرة. لقد كان "لونغي" في غاية التوتر في اللحظات التي سبقت حركته تلك التي صدمت مشاعر الجزائريين وحرّكت ضمائرهم، بحيث كان يطرق بأصابعه على طاولة الأستوديو وكان يستعجل الخروج من الأستوديو ليأخذ حريّته وراحته، ويقوم أويتفوّه ببذاءات كالتي قام بها أو ربما أفظع منها، بعيدا عن الخطاب والوجه المقنّع المُعدّ للاستهلاك الإعلامي أمام الرأي العام، ولذرّ الرماد في العيون. لقد اعتقدت للوهلة الأولى أن تلك الحركة جاءت كردّ فعل من الوزير لونغي على سؤال حول "حقوق الشواذ " في الزواج، لكنّه أكدّ عزته بالإثم الذي أقدم عليه هو ومن والاه، والمصيبة الكبرى تكمن في الربط السيميولوجي بين حقوق الشواذ وحقوق الجزائريين في اعتراف فرنسا بجرائمها المقترفة في حقهم، وماضيها الاستعماري الذي ينافي الشرف. بما يؤكد أن الأمر بعيد المنال على الأقل حاليا. و أنا أبحث عن أصول حركة "ذراع الشرف" في الأنترنت، فوجدت أنها تعود إلى حرب المائة سنة بين فرنسا وإنجلترا (1453-1337)، حيث كان جنود الجيشين يقومون بهذه الحركة قبل المواجهة العسكرية في محاولة لإذلال الخصم وإهانته والتأثير عليه نفسيا. وقد كان رُماة الجيش الإنجليزي يلوّحون لنظرائهم من الجنود الفرنسيين بالإصبعين: السبابة والوسطى، اللتين يستعملانها في الرمي بالقوس كما أنّهم كانوا يقومون ببتر هذين الإصبعين المهمين للأسرى من الجنود الفرنسيين إمعانا في إذلالهم وحرمانهم من الرمي بالقوس. لذلك فقد كانوا يلوّحون لهم بهذه الأصابع ليظهروا لهم سلامة أصابعهم، وبأنّهم قادرون على هزيمتهم والانتصار عليهم. في بريطانيا بقيت حركة "إصبع الشرف" مستعملة للإهانة باستعمال إصبعي السبّابة والوسطى، أما في فرنسا فإن الحركة تستعمل فيها الأصبع الوسطى أو الذراع كدليل على "شرف الذراع" وسلامتها. ما يمكن أن نستنتجه من هذا هو أن هذه الحركة انتقلت من البريطانيين إلى الفرنسيين ومنه إلى الجزائريين خلال الفترة الكولونيالية، من ضمن أنماط وعادات وسلوكيات كثيرة مازالت تسيطر على الجزائريين في اللباس والأكل وحتّى في قاموس حركات البذاءة، فكثيرا ما يستعمل الجزائريون والجزائريات "الأصبع الوسطى" أو الساعد مصحوبا ببذاءات لفظية ذات محمول جنسي صارخ ومهين، له علاقة بالفحولة والقدرة على الاغتصاب الرمزي، ومن النكت الجزائرية التي سمعتها عن الذراع إياه، أن أحد الصم البكم كان متجها إلى "ذراع الميزان" وعندما سأله السائق عن وجهته ومحطّته، قام بحركة ذراع الشرف.. ما يمكن أن نستنتجه أيضا، هو أن هذه الحركة التي كانت ترمز في البداية إلى الشرف العسكري، انزاحت وتطوّرت ودخلت في سياقات السباب الشعبي الوضيع بلغته المنحطّة، وأصبحت أبعد ما يكون عن الشرف الذي تدّعيه فرنسا. في الأدبيات العربية نلاحظ أن الذراع كرمز للقوّة والشدّة، واستعملت كوحدة للقياس "فالذراع الهاشمي" مثلا هو وحدة القياس الشرعية لقياس المساحات وقدره ثماني قبضات 61 سنتمتر. ذكر الله من مقاييس الطول فى القرآن الذراع بقوله في سورة الحاقّة "ثمّ فى سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه". ولأمر ما يقيس الجزائريون سعة خاصراتهم بالذراع عند شرائهم للسراويل. لقد صار واضحا الآن أن كل من يريد أن يسئ إلى الجزائر يعرف كيف يفعل ذلك، أي بالطعن في أغلى وأقدس ما تملك من تاريخ وذاكرة وشهداء.. وتلك هي عقدة الجزائريين المقدّسة.. لست أدري لماذا ذكّرتني حادثة "ذراع الشرف" بقصيدة محمود درويش "سقطت ذراعك فالتقطها واضرب عدوّك بي فأنت الآن حرّ وحرّ ثم حرّ"، وهي واقع حال الجزائريين الذي أحسّوا بالغصة والمرارة أمام تلك الحركة المنحطّة لسياسي وزير فرنسي بالتأكيد أنه لا يمثل نفسه وفقط.. يأتي ذلك في غمرة احتفالهم بخمسينية استقلال الجزائر، وفي عزّ احتفالهم بثورة نوفمبر المجيدة وهم يستعدّون لاستقبال الرئيس الفرنسي فرنسوا هولوند، وتفاؤلهم بالخطوة التي أقدم عليها من أجل تصفية علاقات الحاضر من أثقال الماضي الاستعماري، الذي تصرّ فرنسا على عدم الاعتراف بجرائمها خلاله وهو ما زاد من وطأة هذه الحركة على مشاعر كل الجزائريين. أحمد عبدالكريم