الأتراك أو ”العثمانيون الجدد” أو ”صينيو أوروبا” يعملون بلا كلل منذ مدة لاسترجاع أمجادهم والبحث لأنفسهم عن موقع جديد في خارطة العالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، تركيا منذ سنوات عدة تسعى، سيما بعد مجيء حزب العدالة والتنمية التركي، أن تجد العائلة السياسية والاقتصادية لها في عالم يعلم يقينا الساسة والقادة أنه لا يمكن العيش بالمفرد، السيد الطيب أردوغان، يعلم جليا أن نجاحه السياسي والاقتصادي لا يمكن أن يتواصل دون تحالفات سياسية دولية متينة وأسواق تجارية جديدة وعديدة، وأمنا ورخاء واستقرارا في الداخل التركي من القوة بمكان، في قرابة العشر سنوات الماضية تقريبا، كل حلول التحالفات وسيناريوهات الائتلافات وضعت على الطاولة وجربت بكل جدية ومثابرة، بداية بالتقارب الإسرائيلي التركي إبان 2007، إلى التقارب الرباعي: إيران، سوريا، العراق وإيران، قبل أحداث الربيع العربي، ومن ثم إلى التحالف مع قطر وتنظيم الإخوان المسلمين العالمي، دون أن ننسى التقاربات مع باكستان وأفغانستان، والجمهوريات الإسلامية السابقة للاتحاد السوفياتي. ولعل محاولة تركيا المضنية للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي تعد أهم إستراتيجية اتبعتها ورمت بكل ما تحمله من قوة في معركة الانضمام إليه، ورغم كل الجهود التي بدلتها تركيا على المستوى السياسي أو على المستوى الاقتصادي أو على مستوى احترام الحقوق لتنفيذ الشروط الأوروبية لذلك، إلا أن الأوروبيين ينظرون سلبا إلى احتمال انضمامهم إلى عائلتهم، رغم قبولهم لقرابة 10 دول من أوروبا الشرقية، مع عدم تلبيتها للشروط الأوروبية 100٪، ومما زاد من هم القادة الأتراك، هو ولوج القبارصة (اليونانيين) إلى حظيرة أوروبا دونهم. السيد أردوغان أمام الرفض المتواصل للأوروبيين لطلبه الانضمام إلى الاتحاد الموضوع على طاولتهم منذ 2005، صرح متهكما وساخرا سخرية مبطنة التهديد، حول طلبه الانضمام إلى مجموعة الخمس (أو الست) لتلفزيون ”تي في 24”: ”أخيرا وأثناء زيارة لروسيا، قلت متهكما للرئيس (فلاديمير): اقبلونا داخل مجموعة الخمس بشنغاي وسنعيد النظر في ترشيحنا إلى الاتحاد الأوروبي” في صرخة يائسة تعبر عن هم البحث عن عائلة إستراتيجية. يبدو أن الطائرة التي تقل وزيرة خارجية تركيا أحمد داوود أغلو (المنظر الحقيقي) معطلة أو تحت الصيانة، ومكروفونات رئيس حكومتها السيد طيب أردوغان، ورئيس دولتها السيد عبد الله غول معطلة نوعا ما، لما ننظر التراجع الخفي (المدروس؟) لأداء تركيا في قضايا العالم العربي وتدخلها، صعب جدا أن ينتقل السيد أحمد داوود أغلو وأصدقاؤه في حزب العدالة والتنمية التركي من مبادئ حزب إلى مبادئ دولة حول رؤيته التي كانت عنوان كتابه الأخير: ”العمق الإستراتيجي” التي تعد ”نظرية البيوت الخشبية” عنوانها، والتي فسرت أساسا هذا التوجه المختلف الاتجاهات لتركيا نحو جيرانها الجغرافيين والتاريخيين، واعتباره ضروريا لأمن واستقرار تركيا حيث يقول: ”فإذا لم يعش جيرانك في حرية وأمن لن تعيش أيضا في حرية وأمن” أو بطريقة أفصح، لو اشتعلت النار في البيت الخشبي لجارك، فلا تستغرب اشتعالها في بيتك الخشبي، بعدما شهدنا في الأيام الأولى من الأزمة السورية، الموقف التركي الصارخ، بدأنا نلحظ في الأيام القليلة الماضية تراجعا ملحوظا خلف ستار الواقع السوري لصالح آخرين، هل هي محطة راحة واستراحة، والركون إلى أدوار ثانوية، ليس إلا ؟ هل للأقليتين الهامتين الكردية والعلوية بتركيا دور في كبح انجرار تركيا في الوحل السوري؟ أم أنها إعادة الحسابات السياسية، ومراجعة التحالفات المعقودة الإستراتيجية، سيما مع دولة قطر؟ أم أن الانعكاسات الأولى لمواقفها السابقة بدت تبدو جهارا وسلبا لخبراء إسداء الرأي للإدارة التركية ؟ على كل حال يبدو أن تركيز تركيا على حل مشكلة الأقلية المسلمة بنيانمار أو مساعدة الصومال أقل تعبا وصداعا للرأس من هموم الشرق الأوسط والعالم العربي الكبيرة المؤرقة، التاريخ يعلمنا أن الأتراك لا يتوانون عن التراجع عن تحالفات سابقة لما تتنافى مع مقاربات إستراتيجية جديدة. تركيا في السنوات الماضية، بعد استيلائها على الرأي العام التركي، شرعت في محاولة الاستيلاء على الرأي العام العربي والإسلامي، وقد بدأ ذلك جليا عبر تصريحات أردوغان الرنانة وخطبه العصماء، عقب الهجوم الإسرائيلي على السفينة التركية ”مرمرة” في المياه الدولية لبحر المتوسط نهاية مايو 2010، والظهور بصورة صلاح الدين الأيوبي العصري، في محاولة لتكريس عودة ”العثمانية الجديدة”، حيث لم يخفالسيد أحمد داوود أغلو ذلك حينما قال أمام نوابه في لقاء بالعاصمة أنقرة: إنهم يقولون عنا إننا العثمانيون الجدد... إن لدينا ميراثا آل إلينا من الدولة العثمانية... نعم نحن العثمانيون الجدد، ونجد أنفسنا ملزمين بالاهتمام بالدول الواقعة في منطقتنا، نحن ننفتح على العالم كله، حتى في شمال إفريقيا”. ثم استمرت تركيا بعد ذلك بمساندة ثورات بلدان الربيع العربي، ولكن يبدو في عالمنا اليوم، أن التحركات السياسية كلها لا تنبع فقط من منطلق إنساني أو إسلامي فقط، وأن ثمة مصالح إستراتيجية كبيرة في الميزان مصبوغة بدواع إنسانية أو دينية أو قومية. تركيا الشقيقة الإسلامية الكبرى، وتاريخها العثماني الأسير، ومشكلتها الكردية المستعصية، وجرحها الأرميني الدائم، وموقعها الجغرافي اللغم، تبحث عن مكانة لها في غابة العالم، وتتمنى ذلك بأقل الأضرار، ونحن من المتمنين لذلك في ظل مصالح العرب والمسلمين. عبد الكريم رضا بن يخلف كاتب صحفي