يقول ابن عطاء الله السكندري: ”ما أرادت هِمَّة سَالِكٍ أن تقف عند ما كُشِف لها، إلا ونادته هواتف الحقيقة: الذي تطلبه أمامك، ولا تَبَرَجَت له ظاهر المُكَوَّنات إلا ونادته حقائقها: إنما نحن فتنة فلا تكفر”. (الحلقة2) أما عن معنى الشطر الثاني من الحكمة ”ولا تبرجت له ظواهر المكوّنات إلا ونادته حقائقها:إنما نحن فتنة فلا تكفر” تتبرج المكوَّنات للسالكين بمعنى: 1 - انفتاح الدنيا على السالك وتكاثر النعم وأسباب المتع من حوله. 2 - انقشاع بعض أسرارها له.من خلال خوارق تبدو له بين الحين والآخر. وللشيطان صولة وجولة أمام كل هذين المعنيين، وذلك لإبعاد السالك عن مواصلة السير إلى الله، ولشغله عن مجاهدة النفس وأهوائها، وذلك بما يلذ له من بوارق النعم والمتع التي تتكاثر بين يديه،أو من بوارق الخوارق (خوارق العادات والمقصود الكرامات) فيحسبها شهادة ولاية أو علو درجة عند الله عز وجل. وكم من صلحاء وسالكين تخطفهم الشيطان ثم ألقى بهم في أودية الضلال والشقاء. عندما نصب لهم من هذين الخطرين فخين تصيَّدهم بهما أو بواحد منهما. ومعنى أن لا يعبأ السالك بالدنيا ومتعها، أنه لا يجعل لها مغرس حب في قلبه، ولا يجعل منها هدفا يسعى إليه، أو زينة يتباهى بها، أو متعة يركن إليها فتصده عما هو بصدده من التوجه قلبا وقالبا إلى مابه مرضاة الله. وإن كان ممن يتخذ الإرشاد مصدر تجارة، ويجعل من حسن سيرته وربانيّ سلوكه بين الناس، شارة مميزة يتجمَّل بها، ومركزا يتبوَّؤه في قلوب الناس، فإنه لابد أن تستهويه فتجذبه إليها فتحبسه في أقطارها، ولابد أن يقطعه الشيطان عن مواصلة السير في الطريق المقرب إلى الله، ثم يسقيه من تلك النعم كؤوسا إلى كؤوس، حتى يثمل بها ويحجب عن المصير الذي كان يتمناه قال تعالى:{ولو شِئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركهُ يلهث}. أما عن المعنى الثاني لهذا الشطر فإن العالم يسير في طريقه متعلما ومُعلِما ومرشدا للناس، فتُقبل إليه الجماهير من كل حدب وصوب، ويشعر من تأثرهم به وهداية الكثير على يديه أن له قدم صدق عند الله، وأنه ذو نفحات قدسية وكرامات ربانية فإن كان من المتشبعين بأخطار النفس والهوى لم يقف عند هذه المشاعر والأوهام، ومر بها مستغفرا لله تعالى، موقنا أنه عبد سوء. وأنه شديد الحاجة إلى حماية الله وستره. أما إذا لم يكن قد أخذ حظه كافيا من تزكية النفس ودوام مراقبة الله ،وكان ممن يتعامل بكلمات الدين وشعاراته، بعيدا عن جوهره ولبابه فإن الحالة التي وصفت من إقبال الناس عليه وتأثرهم به،لابد أن تأسره فتكسره، فتوقظ بين جوانحه الاستكبار والإعجاب، وهي آفة راقدة بالفطرة في كيان كل إنسان،من هذا المنطلق يكون الاستكبار بوظائف الدين،وليس استكبارا على الدين كما هو شأن الخارجين عنه. وبهذا يندفع هؤلاء الشيوخ إلى مزيد من الاستدراج على طريق الإعجاب بأنفسهم، ليصل بهم الشيطان والنفس الأمارة بالسوء إلى مهاوي الهلاك.فالكرامة والأمور الخارقة التي تقع من بعض الشيوخ ليس دليلا على الولاية أو على التقوى وإنما هي الاستقامة على شريعة الله والانضباط بأوامره ظاهرا وباطنا {الذين آمنوا وكانوا يتقون}. قال تعالى:{سنستدرجهم من حيث لا يعلمون، وأملي لهم إن كيدي مَتين} والآية في حق الكفار والمؤمنين. وبالتالي لا تركن إلى من يفتخر بالحديث عن كرماته أمان الناس لأنهم إلى الاستدراج أقرب من مسلك الولاية، وهذا ما يفتح السبيل للسحرة وقرناء الجان، ومن تبعهم من ذوي المهارات اليدوية ليدخلوا هذا الباب طلبا للرياسة والدنيا. ...(يتبع) المرحوم الشيخ سعيد رمضا ن البوطي( بتصرف)