يقول ابن عطاء الله السكندري: “الحق ليس بِمَحُجوب، وإنما المَحجوب أنت عن النظر إليه إذ لو حَجَبه شيء لسَتَره ما حَجَبَه. ولو كان له ساتِر لكان لوُجُودِه حاصراً. وكل حاصِرٍ لشيء فهو له قاهر، وهو القاهر فوق عباده”. ثمة فرق كبير بين قولك: الشمس محجوبة عني، وقولك أنا محجوب عن الشمس. فالقول الأول يصدق بما لو كان على صفحة الشمس سحاب يحول دون رؤيتك لها، والقول الثاني يصدق بما لو كانت على عينيك غشاوة حالت هي الأخرى دون رؤيتك لها. في الحالة الأولى الشمس محجوبة عنك، إذ لا دخل لك في الحجاب الذي أَخْفاها عنك، وفي الحالة الثانية أنت محْجُوبٌ عنها، إذ الحجاب عائد إليك ولعله جزء منك. إذا تأملت في هذا الفرق عَلِمت أنه لا يأتي حال أو زمان أو مكان يكون الحق جل جلاله محجوباً بشيء ما عنك أو عن غيرك. إذ لو حُجب عنك بشيء لكان الحَاجِب له مُتَسلطاً عليه بِحُكم الحجب والستر، إذ أن الساتر لشيء مايرسم حدود وجود ذلك الشيء ويحصره داخل دائرته أو نطاقه، وإلا لما غاب وجوده عن أنظار الذين هم خارج ذلك النطاق. ولا شك أن السَّاتِر لا يكون له هذا الشأن في الحصر والتحديد، إلا وهو قاهرٌ للمَسْتُور. إذا تبين هذا فابن عطاء يرمي من وراء هذه الحكمة إلى حكمتين اثنين، إحداهما تدخل في نطاق العقيدة والأخرى تدخل في مجال التربية والسلوك. أما ما يدخل في نطاق العقيدة فهو أنه لا يجوز ألبته أن تقول: أن الله محجوب عني أو عن عباده، ذلك لأنك بهذا كأنك تقول ان ثمة فاعلا تحكم به وهيمن عليه. وأما ما يدخل منها في مجال التربية والسلوك فهو ما ينبغي أن تعلمه أن الإنسان في فطرته التي أنشأه الله عليها مُتَصل بربه عز وجل عَالِم ٌبه نزاع من الحنين والحب ليس في كينونته ما يحْجبُه عنه. فلما خاض في متاهات الدنيا وانغمس في مُلهياتها ومنسياتها وركن منها إلى الشهوات والأهواء نَسَجَ له من ذلك كله حجاب أسدل على قلبه (أي على الفطرة)، وابتلاه بالبعد بعد القرب. وفي الناس ربما من قد يقول:أين هي هذه الفطرة؟ إنني لم أرها ولم أشعر بها في أي مرحلة من حياتي. أليس تَلَهفك لكل جمال في هذا الكون (صور التجلي الإلهي) نوع من الحنين إلى الذي خاطب روحك في العالم العلوي: {ألست بربكم}. وإذا ما أردنا إزالة هذه الغشاوة علينا مقاومة النفس ورعوناتها دون قمع للجسد ومتطلباته مع طرق باب الرحمة الإلهية عن طريق التذلل والإنكسار. المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)