يقول ابن عطاء الله السكندري: ”شعاع البصيرة يُشهدك قُربك منه، وعين البصيرة يشهدك عَدَمُك لوُجوده، وحقُ البصيرة يشهد وجودُه، لا عدمك ولا وجودك”. هذه الحكمة تتضمن بيان ثلاث رتب يتدرج في طريقها المؤمن إذ يسعى للوصول إلى درجات الإحسان التي نوّه بأهميتها، وأهمية الجهاد للوصول إليها، رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما عن الرتبة الأولى، فهي تلك التي يعتمد فيها الإنسان على الدليل والبرهان وشعاع البصيرة، أي العقل ومن المعلوم أن العلم يتزايد ويقوى بواسطة العلم وقواعده،بل إن بينهما تفاعلا دئماً، فكلٌ واحد منها سند للآخر. فالمرتبة الأولى التي يتبوؤها السائرون في هذه الحياة إلى معرفة الحقيقة الكونية وكشف أسرارها، هي مرتبة اليقين بوجود الله ومعرفة صفاته تحت أشعة العقل الهادي إلى العلم والعلم الدال على العقل. هذه المرتبة تشكل الجامع المشترك لكل المؤمنين بالله عز وجل على اختلاف فئاتهم وتفاوت درجاتهم. فالله عز وجل دعانا إلى معرفته والإيمان به من منطلق العقل والعلم فهما أساس كل شيء قال تعال:{وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون}. (العنكبوت) ويقول محذرا من اتباع ما لا دليل عليه من العلم الذي هو شعاع العقل: {ولا تقْف ما ليْس لك به عِلمٌ إنَّ السَّمع والبصَرَ والفُؤادَ كلُّ أولَئكَ كان عنه مسؤولاً}. الاسراء.. وتتلخص هذه المرتبة في اليقين بوجود الله إلها مبدعا خالقا لهذا الكون، قائما بأمره، مهيمنا على شؤونه، يلي هذا اليقين التعرف على صفاته وأهمها صفة الوحدانية، وبذلك يدرك قربه الدائم من الله عز وجل، أينما حل وحيثما ارتحل.. ومن أولى ثمرات المرتبة الاولى،تنامي مراقبة العبد للرب جل جلاله. أي إن يقينه بقربه الدائم من الله عز وجل، يجعله يصطحب شعورًا يساوره على الداوم بأن الله يراه.. يراه في سائر تقلباته وأطواره حتى في خواطره وأفكاره التي تطوف برأسه. فالهرمزان لما قدم المدينة وجعل يسأل عن القصر الذي يسكن فيه عمر رضي الله عنه، وجده في العراء متوسدا نعليه، فلما أفاق من ذهوله قال:”عدلت فأمِنت فنمت يا عمر”، وعدله لم يكن اختراعا أو فلسفة جديدة و إنّما ثمرة من ثمار الإسلام الذي غرس في نفسه مراقبة الله عز وجل، فتركزت من ذلك محكمة ربانية جاثمة في ثنايا قلبه. أما الرتبة الثانية، التي عبر عنها ابن عطاء:”وعين البصيرة يُشهدك عدمك لوجوده” وإليك خلاصة ما يعنيه بهذا الكلام: الاستدلال على وجود الله ووحدانيته وصفاته، بالأدلة العلمية، مرحلة لابدَّ منها، فإذا أخذ صاحب هذه الاستدلالات نفسه، بعد ذلك، بورد دائم من الأذكار المأثورة، وألزم نفسه بزاد دائم من العبادات والنوافل يثابر عليها ويستزيد منها، وفطم فمه عن تناول المال الحرام، وبذل ما يملك من جهد للابتعاد عن المعاصي عل اختلافها، تشربت نفسه حقائق الإسلام وعقائده، وغدا الإيمان بالله وصفاته جزءاً لا يتجزأ من كيانه، ويقينًا مهيمنًا على قلبه ووجدانه. وإذا استقر به الأمر عند هذه الحالة لم يعد بحاجة إلى مقدمات منطقية يصوغها، وإلى أدلة يعتمد عليها،ففيم يبحث عن الدليل وقد غدا إيمانه بالله وصفاته روحا ثابتة تسري داخل روحه. إذن فالفرق بين هذه الرتبة والتي قبلها، أن الأولى تتمثل في اليقين العلمي. أما هذه فتتمثل في الشهود العلمي. إنه لم يعد يرى في المكوَّنات شيئا ذا وجود مُستقل حتى يرى فيها دليلا على الله عز وجل، وبهذه الرتبة فإنه كلما نظر إلى الكون لم يجد فيه إلا صفات الخالق عز وجل.. وهي الرتبة التي يتبوؤها أصحاب وحدة الشهود (وربما سيطر عليه هذا الحال وزجه في ”الفناء” أي عدم الشعور بجميع المكوَّنات، وهي حالة من الضعف يجب ان يتجاوزها السالك إلى الله عز وجل بما يسمى البقاء..) المهم أن تعلم أن المؤمن يتجاوز في هذه المرحلة الحاجة إلى وساطة الأدلة، إذ لا يجد بعين البصيرة إلا المَدلُول وهو الله عز وجل. أما المكوَّنات التي كان فيها مظهر البرهان والدليل، فهي الآن في حكم بصِيرته مَعدومة. ففي الحديث الذي رواه مسلم بسنده من حديث عمر بن الخطاب إذ تحدث عن الإحسان،وعرفة بقوله:”أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك”. وانظر إلى حاله صلى الله عليه وسلم رغم أنه كان لا يملك الوقت لكثرة أنشطته والمهام المُلقاة على عاتقه وهو يدخل مكة كيف كان مطأطئا رأسه مستغرقا في حالة فاض الزمان كله فيها بمعنى العبودية التامة لله وحده. ثم تأمل في سيرته لله إذ كان يختلي مع نفسه، بعيدا عن المعالجات والعلاقات الاجتماعية، في ليل أو نهار، تجده مستغرقا، في هذه الحالة ذاتها من الشهود والانصراف بكليته إلى الله عز وجل. أما الصحابة يتفاوتون بعد ذلك في الرتب التي يتحدث عنها ابن عطاء. وفيهم الكثير ممن ارتقى إلى رتبة الإحسان هذه،رأوا الله بعين البصيرة، دون احتياج إلى أي سند من أشعتها أي البراهين والمقدمات العلمية. أما الرتبة الثالثة هي التي يعبر عنها ابن عطاء الله بقوله: ”وحق البصيرة يشهدك وجوده،لاعدمك ولا وجودك”. ففي هذه المرتبة يعود صاحبها من الفناء إلى البقاء.. أي يعود من حالة الغيبوبة عن ذاته. وعن المكوَّنات التي من حوله فناءً بعين بصيرته في الله ،إلى ملاحظة الوضع الواقعي.. وهي الرتبة التي إذا تبوأها الإنسان أصبح رباني المشاعر والنزعة والسلوك.يتعامل مع الدنيا خادمأً لديَّانها وهي رتبة الرسل و الأنبياء يَلِيهم الصديقون والربانيون، الذي كان بهم عصر السلف الصالح، ثم امتدت منهم قلة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها،أولئك هم الذين قال الله عنهم:”{ثلةٌ من الأوَّلينَ،وقَليلٌ من الآخرينً (الواقعة). المرحوم الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي (بتصرف)