القرآن معجزة الإسلام إلي الدنيا, ملأت وجوه إعجازه ملايين الصفحات لفقهاء عظام استقصوها ودرسوها وتأملوها وكتبوا فيها آلاف المصنفات يجمع بينها جوهر بالغ الأهمية, يقول الدكتور رجائى عطية: "القرآن يغني الإنسانية في باب الاعتقاد, ولا يصدها عن سبيل المعرفة والتقدم.. يعطيها كل ما يعطيه الدين من خير, ولا يحرمها شيئا من خيرات العلم والحضارة.. القرآن معجز في بلاغته ورصفه وبيانه.. في جرسه ومعماره الموسيقي.. في الشحنة الغامضة التي تتغشى القارئ له.. في إنبائه بالغيب.. في هدايته إلي الإيمان والتوحيد.. في احترامه للعقل.. في دقة ونظام أحكامه في العبادات والمعاملات وشتى شئون الحياة, وإعجازه الأكبر هو ما طوي عليه من صلاحية تعم الدنيا وتخترق الزمان بلا انقطاع". كانت مشكلة الدعوات تتجلي في مقاومة العقول لكل جديد لم تألفه, ومسارعتها إلي التكذيب, فكانت "الخوارق الحسية" المخالفة للعادة وسنن الأسباب والمسببات هي حجة الصدق التي أيد الله بها الأنبياء والرسل قبل النبوة المحمدية.. وأحصى القرآن الحكيم هذه الخوارق والمعجزات. يروي القرآن "حجج الصدق" التي حملتها النبوات السابقة, بما تضمنته من خوارق الماديات والحسيات, وكيف قابلها الكثيرون بالإنكار في زمان حدوثها, وازداد النكران لها والاستهزاء بها بانصرام الزمن وتباعد وخفوت الصور التي كانت لدى من تلقاها وعاينها بالمشاهدة.. فيدعو القرآن المجيد نبيه المصطفى إلى أن يلفت نظر الكفار والمشركين إلى تأمل ما كان من عاقبة المشركين بالأمم السابقة.. الذين كذبوا بالله, وعصوا رسله وأنبياءه, وأوصدوا قلوبهم ظلما في وجه كل دعوة ترشدهم إلى الحق وتروم هدايتهم إلي سواء السبيل.. فيقول القرآن لمحمد عليه السلام:' قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبل كان أكثرهم مشركين'( الروم42). المعجزات المادية أو الحسية, محدودة بطبيعتها بحدود المكان والزمان.. يبتعد تأثيرها بابتعاد المكان مثلما يبتعد بابتعاد الزمان.. ولا تعدم أن يأتيها الإنكار ممن عاينها وشاهدها.. فالمشاهدة والملاحظة محصلة تفاعل مركب بين الحدث وذاتية المشاهد التي تختلف من شخص لآخر, سواء في قدرات رصده أم في صدقه أم في نواياه.. وقياس الوقائع الحادثة علي النواميس هي بدورها مسألة نسبية, وقد لا يعتبر خارقا للعادة والناموس في زمان ما كان في نظر الناس خارقا للعادة في زمان سابق ومن يسبق إلي خارقة بمقياس زمانه بحكم العلم المتاح فيه, قد يكشف ما يتاح في العلم من بعدها أنها لم تكن خارقة في الحقيقة, يضاف الي ذلك أن الخارقة المادية أو الحسية ليست حجة إلا علي من رآها وشاهدها في مكان وزمان حدوثها, وتفقد بالضرورة قوة وحجم تأثيرها بطول الشقة أو مرور الزمن.. وتآكل وخفوت صورتها وأثرها ومقدرة الناس علي قبولها والاقتناع بها ناهيك بالتسليم والإيمان. لذلك كان القرآن ذاته هو معجزة الإسلام إلي الدنيا.. معجزة يصدق عليها ما قاله المصطفي من أنه' لا تنقضي عجائبه, ولا يخلق من كثرة الرد'.. فآياته وأحكامه فيه.. باقية إلي أبد الآبدين, يلم بها من يطالعه اليوم كما ألم بها من استقبله بأمس.. ورصفه وجرسه ومعماره الموسيقي يتغشي من يقرأه اليوم مثلما تغشي من تلاه بأمس.. وحكمة ودقة ما طوي عليه من نظام للحياة والأحياء, وللعبادات والمعاملات, وشتي شئون الحياة.. في نظام بديع لم يفرط فيه من شيء.. هي حقائق يلم بها من يدرسه اليوم بمثل ما ألم بها من درسه بأمس..ثم هو بفلسفته لم يصادر علي تطور الحياة, وأعطاها حقها من الالتفات في إطار الأصول والثوابت التي لا تتغير ولا ترد عليها أو تمسها تقلبات الأيام والظروف.. ومن إعجاز القرآن المجيد, صلاحية ما طوي عليه من أحكام ومعاملات لكل مكان ولكل زمان, وتحقيقا لذلك قامت الفلسفة القرآنية علي تفرقة حكيمة خالدة بين الأصول والثوابت, وبين المتغيرات.. فخارج دائرة الأصول والثوابت من توحيد وعبادات وقيم ومباديء لا تتغير ولا تتطور بتغير الأماكن والأزمنة, حرصت الحكمة القرآنية علي الاكتفاء بالقواعد العامة دون التفصيلات فيما يتغير. أو تختلف تطبيقاته باختلاف الظرف الزماني أو المكاني.. فالشوري مثلا لم تعرض لجزئيات ولا تفصيلات, واكتفت بالحض عليها والترغيب فيها وبيان لزومها.. فالشوري من صفات المؤمنين.. ' وأمرهم شوري بينهم'( الشوري38).. والنبي ذاته عليه السلام, مأمور بالشوري ومندوب إليها.. ' وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل علي الله'.( آل عمران159) وحين أعطي الله القرآن لنبيه محمد, فإنه أعطاه وأعطي للدنيا بذلك نبوة هداية, ترشد العقل بالبينة والفهم والموعظة الحسنة ولا تفحمه بالمعجزة المسكتة, فالقرآن لم يكن محض استبدال معجزة بمعجزة, فإنما هو سبيل لجعل النبوة نبوة هداية تخاطب الوجدان والعقل والضمير, وليست نبوة استطلاع للغيب وكشف للأسرار وإفحام للعقول بالخوارق والمعجزات.. أراد الله تعالي لنبوة الإسلام أن تخاطب' العقل'' والبصيرة' وتعلم الناس أن النبي ما هو الإ بشر رسول اصطفاه المولي للرسالة.. ' قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا'؟(الإسراء93). القرآن المجيد هو ذاته آية الإسلام الكبرى, وحجته الممدودة في عصر التنزيل وفي كل ما يأتي بعده من عصور, لأن حجة القرآن لا تنطمر بمضي الزمن, وإنما يزداد فهم الناس لما فيه من الحق والنور والجمال.. فلم يكن القرآن الحكيم محض معجزة تجري مجري الخوارق الحسية التي كانت عليها حجج صدق الديانات السابقة, وإنما هو نور وهداية وزاد موصول ومدد لا ينتهي يجعل من نبوة الإسلام نبوة هداية وإنارة تخاطب الوجدان والعقل والضمير, وتستنفر وتستحث هذه الملكات لاستقبال فيوض هذا المدد الدائم واستيعابه واستحضاره والإمساك به كيما لا يفلت من الإنسان تعلقه المنشود بالمعني الكلي والغاية المثلي للإسلام في إصلاح وصلاح الحياة والأحياء إلي يوم الدين. من مزايا القرآن الكثيرة.. مزية واضحة, هي التنويه بالعقل والتعويل عليه في أمر العقيدة وأمر التبعة والتكليف.. قد تجد في كتب الأديان الأخرى إشارات صريحة أو ضمنية إلي العقل أو إلي التمييز, ولكنها إشارات مقتضبة تأتي عرضا, وقد يلمح فيها القارئ شيئا من الزراية بالعقل أو التحذير منه, ولكن القرآن الكريم لا يذكر العقل إلا في مقام التعظيم والتنبيه إلي وجوب العمل به والرجوع إليه, ولا تأتي الإشارة إليه عارضة ولا مقتضبة في سياق الآية, بل هي تأتي في كل موضع من مواضعها مؤكدة جازمة باللفظ والدلالة'.. لا تخطيء العين تكرار الإشارات في القرآن الحكيم إلي العقل بكل وظيفة من وظائفه, سواء في مسائل العقيدة, أم في بدائع الخلق, أم في أمور التبعة والتكليف.. في آي الذكر الحكيم ما يلفت الأنظار والبصائر والعقول إلي تدبير الخالق المصور في هذا الكون العظيم الذي يحفل بأبلغ الدلائل علي وحدانية الحق تبارك وتعالي وقدرته وعلي آياته الدالة عليه..' إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب. الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار'.( آل عمران191,190) هذه الدعوة القرآنية, دعوة إلي إعمال العقل للتأمل في خلق السماوات والأرض, وإجلاء البصر فيما امتلأ به الكون من البراهين الدامغة التي ترشد إلي جلال الخالق البارئ المصور, وتهدي إلي قيوم السماوات والأرض الذي خلقهما وما بينهما, وبقدرته التي وسعت كل شيء وعظمته التي لا تدانيها عظمة, وتدبيره المعجز الحكيم لشئون الكون.. والتفكر والتأمل وإعمال العقل يلفت الآدمي إلي الوجود الإلهي المتجلي بعظمته في كل ركن من أركان هذا الكون.. إن النفس الإنسانية, هنا وهناك, أمس واليوم وغدا, لابد مدركة من القرآن المجيد, وبتأملها العقلي المتبصر أن هذا الكون العظيم وراءه قدرة عاقلة مهيمنة.. ولا بد مهتدية بنور اليقين إلي الإله الواحد الأحد, الذي لم يلد ولم يولد, وخلق هذا كله من العدم.. الصمد الذي لا شريك له. ليس كمثله شيء. المنزه عن مشابهة المخلوقين.. السميع البصير المحيط بكل شيء. سبحانه لا تدركه الأبصار, وهو يدرك الأبصار, وهو اللطيف الخبير. هذه الدعوة القرآنية إلي الوحدانية وإعمال العقل, والتأمل والتدبر والتفكير في آيات الله في خلقه, دعوه تميز بها القرآن المجيد, بها أنزل العقل منزلته, ودعا مع الوحدانية إلي إيمان العقل المتدبر المتأمل بجانب التصديق بالقلب والوجدان, فأتم للعقيدة جناحيها في هذا القرآن المجيد الذي كان معجزة الإسلام إلي الدنيا, الذي صانه الخالق عز وجل وقال عنه:' إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون'