لم يسبق للدولة اللبنانية، منذ انتهاء الحرب الأهلية، أن بدت مشلولة وكسيحة وعاجزة، حتى أمام موتاها، كما هي عليه اليوم. كان على أهالي ضحايا العبّارة الإندونيسية التي غرقت بينما هي تقل مهاجرين غير شرعيين إلى أستراليا، أن ينتظروا أياما ويقطعوا طرقات رئيسة، وأوتوسترادات دولية، وينصبوا الخيام الاحتجاجية، ويعطلوا امتحانات الجامعة اللبنانية، ويصرخوا عبر المحطات التلفزيونية، ويذرفوا الدموع تلو الدموع، كي تتحرك الدولة، في النهاية، وترسل وفدا رسميا، على رأسه وزير واحد، إلى جاكرتا، لتفقّد ما آلت إليه أمور الضحايا هناك من أموات وأحياء. ثمة فرق شاسع بين أن يغرق الفقراء البائسون في المياه الإقليمية الإيطالية، كما حدث مع ضحايا عبّارة لامبيدوزا منذ أيام، وتعلن سلطات البلاد يوما من الحداد الرسمي (ولو من باب المجاملة)، ويطلب البابا من المؤمنين إقامة الصلاة على أرواح المفقودين، ويُسعف الناجون، وبين أولئك المساكين الذين هلكوا في المياه الإقليمية الإندونيسية، حيث يبدو أن العالمثالثية تبلغ أعلى مستوياتها، وتمارس أدهى مكرها. لا يكاد يمر شهر إلا ونسمع عن قوارب الموت التي تغرق ببؤسائها وفقرائها الذين يهربون من ظلم إلى ما هو أشد منه. ولعل ضحايا المركب الإندونيسي، على الرغم من عظم مأساتهم لا يشكلون حالة فريدة، بين عرب أصبحوا يهلكون بالمئات، وهم يفرون من سوريا ومصر والجزائر والمغرب والعراق. لكن أن يصبح حتى الناجي من الغرق موضع مطاردة من عصابات، وشريدا في الغابات أو مخطوفا من داخل المستشفيات، فهذا من عجائب القصص وغرائبها. وبما أن الدولة اللبنانية تصرفت وكأن القائمة بالأعمال في إندونيسيا جوانا قزي، قادرة وحدها على هذه المهمة الطرزانية، فقد بات اللبنانيون الناجون هناك في حالة يحسدهم عليها الأموات، بينما يروى أن الجثث نفسها تعرضت للاضطهاد، وصار من الصعب نقلها، لأن أحدا لم يُعنَ بأمرها أو يحفظها في برادات. يضاف إلى كل هذا الأسى الذي تبدو الحكومة اللبنانية ساهية عنه، أن أحدا لا يعرف مدى الجدية في البحث عن الجثث، ما دام الناجون أنفسهم ليسوا في مأمن من القتل أو مطاردة العصابة التي غررت بهم. فمراسلة إحدى القنوات التلفزيونية، زارت الشاطئ المنكوب وقدمت تقريرها من هناك، بعد أيام قليلة من الكارثة، أمام قطعة من السفينة الغارقة، وأكدت عدم وجود أي منقذين، أو باحثين عن ناجين. كلٌّ يريد فلذة كبده حيا أو ميتا، ولا عذر لأي دولة في العالم في أن تتقاعس في البحث عن مواطنيها، وجلبهم من آخر أصقاع الدنيا، حين يتطلب الأمر ذلك. هذه ليست المرة الأولى التي يكون فيها لبنانيون مهاجرون ضحايا لطائرة تتحطم، أو مركب يغرق، أو عصابة تتآمر، لكن وهن الدولة تكالب هذه المرة على الضحايا وعائلاتهم. فعصابات التهريب الناشطة، تعمل بشكل أساسي شمال لبنان، حيث الفقر هو الأقسى والحاجة إلى الخلاص ملحّة. من طرابلس إلى الحدود السورية، حيث بؤر الحرمان والإهمال، وجد السماسرة من ينصتون لإغراءاتهم. بالنتيجة ثمة اليوم عشرات اللبنانيين العالقين في إندونيسيا بلا مال أو أوراق ثبوتية بعد أن جردتهم العصابات منها، ليس هناك من يهرّبهم إلى أستراليا ولا قوة تعيدهم إلى لبنان. وفي أستراليا مئات آخرون يعانون الذل في معتقلات اللجوء المنسية بعد أن قبض عليهم وهم يحاولون الوصول إلى بر آمن. لا تستطيع الحكومة اللبنانية الحالية حلّ كل مشكلات الشمال المتراكمة من عقود. كما أن من دفع عشرة آلاف دولار ليهرب بشكل غير شرعي، ليس معدما بالكامل. لكن هؤلاء، إضافة إلى البطالة، يعيشون في مناطق بالكاد وصلت إليها الكهرباء وبعض المدارس، وقليل من الطرق، وكثير من اليأس. وإلى الرجال العرب الذين كانت تحملهم قوارب الموت صوب شواطئ الشمال الباردة في السنوات السابقة، يضاف اليوم النساء والأطفال، هذا تطور يستحق التأمل. وإلى الجنسيات المغاربية أضيف مؤخرا بؤساء بلاد الشام ومصر معهم. فمن لم يصبح لاجئا في بلد مجاور بات طريدا لعصابات اللصوصية والاختلاس في ماليزيا وإندونيسيا. المشهد قاتم، ليس للبنانيين وحدهم، بل للعرب أجمعين. ففي تقرير صدر مؤخرا لمنظمة ال”إسكوا”، يتضح أن سوق العمل العربية فوضوية، تتفشى فيها ظواهر غريبة يصعب على المؤسسات الدولية فهمها. هذا فضلا عن أن الحاجة في السنوات العشر المقبلة هي إلى 1.5 مليون فرصة عمل، بينما الفرص، في واقع الأمر، تتناقص بدل أن تنمو، والشركات تغلق أبوابها وتسرح موظفيها، بدل أن نرى مشاريع جديدة تنتعش، خاصة في ظل ظروف الثورات العربية المشحونة بالدموية والعنف، اللذين يحدان بشكل هائل من إمكانية الاستثمار. اعتمادا على رأي مديرة ”صندوق النقد الدولي”، كريستين لاغارد، ”فإن التحولات في دول العالم العربي قد تكون الأطول والأصعب في العالم”. ومع رؤية مستوى الدمار الذي لحق بسوريا والعراق وليبيا، وما تعيشه مصر واليمن ولبنان وتونس من اضطرابات، كلها أمور تدفع إلى التساؤل حول مدى رغبة العرب في الصبر على مأساتهم. كم من الوقت سيحتاجون ليدركوا أن العلة في عقولهم وقلة حيلتهم؟! ألا يمكن أن تكون الكارثة الاجتماعية التي تجمعهم، بعد أن فرقتهم البغضاء والطائفية وضيق الأفق، هي الكوة التي منها سينظرون إلى ما يوحدهم؟ الأرض العربية على اتساعها تضيق بمن عليها، وتقذف بأبنائها في لجج المحيطات لتلتهمهم الحيتان ووحوش الأرض. والحل بحسب تقرير ال”إسكوا”.. ”بذل مزيد من الجهود نحو التكامل الإقليمي الاقتصادي” لكسر الدائرة المقفلة، وليس على الإطلاق اللجوء إلى الدويلات والفيدراليات والعداوات الأخوية.