لا يمكن إيجاد كلمة أخرى غير كلمة ”فضيحة” لوصف خطاب وزير خارجية الأسد وليد المعلم أمام المؤتمر الدولي للسلام في سوريا، الذي انعقد يوم ال21 من شهر يناير (كانون الثاني) في مدينة مونترو السويسرية. قال المعلم للحاضرين من أربعين دولة بينها الدول الخمس الكبرى: أنتم إرهابيون، والنظام السوري مصمم على محاربتكم حتى النهاية، لذلك عليكم كدول تأييد الحرب التي يشنها عليكم! لا عجب أن الخطاب صعق الحضور وأصابهم بالذهول، وجعلهم يتساءلون باستهجان إن كان الرجل يقرأ خطابا أملته عليه المخابرات السورية، المعروفة بإجبار مسؤولي النظام على قول ما تمليه عليهم من تصريحات. قال المستمعون: من غير المعقول أن يكون المعلم على قدر من الغباء يدفعه إلى إلقاء خطاب تحدٍّ عبثي ومحبط، بينما يغرق نظامه في بحر من دماء الشعب السوري. وتساءلوا: كيف يمكن لدبلوماسي محترف كالمعلم تقديم هدية مجانية للائتلاف الوطني هي هذا الخطاب الحافل بالأكاذيب؟ في النهاية، حاولت التخمينات تفسير أسباب الخطاب الفضيحة، فقال بعضها: - إن المعلم يخاطب شبيحة وعسكر الأسد كي يرفع معنوياتهم ويقنعهم بأن خط السلطة مبدئي، وأنه هو الذي يوجه خطاهم، وليس ما يتهمهم الشعب به من فساد وأنانية وإجرام. هذا الرأي أكده قيام الشبيحة بإطلاق النار خلال استماعهم إلى المعلم، مع ما حمله تصرفهم من خطاب موجه بدوره إلى الخارج، يبلغه أن نظامهم يتحداه ولا يأبه بمواقفه حياله، وبالعزلة التي فرضها عليه، وبما شعر به من خيبة، بل وبما شاع حول ما قاله له لافروف، وزير خارجية روسيا، بغضب: إن خطابك لم يخدم أصدقاءك. إن المعلم كان يواصل وضع العالم أمام حتمية الاختيار بين نظامه وبين ما يسميه تنظيمات القاعدة، وإنه ركز كلامه لهذه الغاية على أطروحة يحبها الغربيون هي ”الحرب ضد الإرهاب”، عندما حاول إقناعهم بجدية نظامه في كل ما يتصل بخوض هذه الحرب، ”بالنيابة عن العالم، وللحفاظ على أمنه واستقراره”، كما قال الخطاب، وللمحافظة على الأقليات، وخصوصا منها المسيحية، التي ذكرها بالاسم، وزعم وفده في لقاءات صحافية لاحقة أن الأسد يحميها من الإرهابيين، وأن سياساته وخياراته الأمنية والعنيفة، التي تستقدم الإرهاب إلى سوريا وتدفع شعبها إلى الاقتتال والتفكك، ليست هي الخطر الذي يهدد وجود ووحدة شعب ومجتمع سوريا. كان المعلم يريد إقناع العالم بأن نظامه هو الوحيد الذي يدرك خفايا وأبعاد الحرب ضد الإرهاب، والوحيد الذي يقدم ما يتطلبه الانتصار فيها من تضحيات تصون أمن العالم، الذي كان سيساعده وسيقف إلى جانبه لو كان يعي حقيقة ما يحدث، وشرحه في خطابه. إن المعلم أراد إحداث اختراق في علاقات بلاده بالعالم، وخصوصا منه الغربي، فقد سبقت وصوله شائعة تقول إنه عالق في اليونان لأنها رفضت تزويد طائرته بالوقود، تطبيقا لنظام عقوبات دولي يستهدف حكومته، ولأنه تعمد من جانبه ألا يملأ خزان طائرته كي يشتري الوقود من دولة أوروبية، ويحدث اختراقا في هذا النظام. إلى هذا، لفت الأنظار عدد الصحافيين المرافقين للوفد ونوعية نشاطهم اليومي، وتعمدهم التحرش بالجميع، موالين وخصوما، عربا وأجانب، ودعوتهم إلى التحدث مع وسائل الإعلام الأسدية، وقصر أسئلتهم على ”همروجة” الإرهاب، واحتلالهم معظم المقاعد في أي مؤتمر صحافي، ونقلهم أنباء مفبركة تقنع الجمهور السوري بقوة موقف النظام وعدالة معركته، المحرجة للآخرين عموما، وللمعارضة على وجه الخصوص. من يراقب سلوك وفد السلطة، وامتناعه عن التفاوض مع المعارضة، ونزول معظم أعضائه يوميا إلى المركز الإعلامي في مبنى الأممالمتحدة، سيقتنع بأن هذا الوفد جاء إلى جنيف كي يخوض معركة إعلامية تعيد تأهيل نظامه لدى الرأي العام الغربي والدولي، وتكسر جدار العزلة السميك المضروب حوله. يفسر هذا قرار تجميد نشاط الوفد السياسي وتعطيل التفاوض، وبقاء أعضائه جميعهم في جنيف، حيث يخوضون معركة تضليل إعلامي شرسة ومدروسة ويديرون ظهورهم لأي حل سياسي يخرج سوريا من ورطتها. كان العالم يريد إحداث تقدم ما في تطبيق القرار 2118 ووثيقة جنيف الخاصة بحل يلبي تطلعات الشعب السوري ومطالبه ويوقف قتله، فجاء الوفد الأسدي لإقناعه بسخف مسعاه وتهافته، وبضرورة التحالف معه ضد إرهاب يجسده كل من لا ينتمي إليه كوفد المعارضة وشعب سوريا، الذي يقاوم الأسد ويناضل لإسقاط نظامه. هل نجح؟ لقد قوض جزءا كبيرا من ثقة أصدقائه فيه، وأقنع خصومه بصحة مواقفهم منه، وشجع قطاعات واسعة من جماهير المحايدين في سوريا على تأييد المعارضة، ونفر الأممالمتحدة من عدوانيته وتجبره، ووحد السوريات والسوريين من جديد ضده. لقد أثبت خطاب المعلم أن النظام الذي أملى عليه كلماته صار خارج العالم، وأن عقله معطل وعنفه بلا حدود، وأنه قادر على إقناع الآخرين بضرورة إسقاطه!