لم يحدث تداخل في الخنادق والمواقف مثلما حدث خلال الأيام الأولى من حرب العراق المستعرة، فعلى خلاف عادتهم لم يظهر البعثيون رغبة في الإعلان عن دور حاسم لهم في عمليات الاستيلاء على محافظة نينوى والقسم الشمالي من محافظة صلاح الدين، واكتفوا بتصريحات خفيفة لم تثر انتباها، ولم تترك لهم الأحداث الحالية أثرا ملموسا على الأرض، وبقيت كل محاولات التوضيح هامشية وغير مقنعة، مبررين فتورهم بعدم ملاءمة الظروف ولتجنب التقاطع السلبي مع الجماعات الأخرى، ما يدل على أن دورهم لا يزال ضعيفا ولا يسمح لهم باتخاذ مسار قيادي، كما أن قيادتهم الحالية استفادت من الدروس المؤلمة التي تمخضت عن تجارب مواقف القيادة السابقة. الكثير من الأوساط الرسمية في بغداد وجهت لوما واتهامات تتراوح بين الوضوح والإبهام إلى دور رئاسة إقليم كردستان فيما حدث من انتكاسة للقوات الأمنية في مدينة الموصل، ومع غياب الأدلة المادية أو حجبها في المرحلة الحالية، فإن احتضان أربيل لمتحدثين رسميين لجماعات مسلحة مشاركة في العمليات القتالية ضد الدولة العراقية أثار تساؤلات مثيرة عن أهداف وتوجهات رئاسة الإقليم، وعما إذا استندت إلى علاقات معينة، إلا أن المركز أظهر حرصا - وفقا لسياق المعالجات - على تجنب استخدام عبارات واضحة، لأسباب تتعلق بالأوضاع المعقدة حاليا. ومن يراقب الوضع من زوايا المدن الساخنة يصل إلى نتيجة مفادها أن ”داعش” هو من يقود العمليات وهو من ينفذ وهو من يفرض رأيه، وكل الآخرين ممن رغبوا في المشاركة في العمل العسكري اعتبروا ملتحقين به، لذلك فإنهم لا يمتلكون القدرة على اتخاذ مواقف معلنة في المجالات الإعلامية والسياسية، ولم تسجل لهم نشاطات عسكرية، ولم يتركوا أدلة أو علامات تشير إلى مناطق أو نقاط انتشارهم في المدن وخارجها، إلى درجة أعطت انطباعات قوية عن هامشية أدوارهم. على الرغم مما قيل عن تحضيرات واتفاقات مسبقة جرى التداول حولها قبل بضعة أسابيع من بدء العمليات. الهجوم على الموصل لم يكن مباغتا من ناحية الاتجاهات وحجم القوة، إلا أنه تسبب في إرباك شديد قد لا يخلو من تنسيق فعلي مرتبط بمفاصل قيادية ضمن التشكيلات الميدانية، وأثرت قوة الصدمة في إدارة الصراع نقلا إلى محافظة صلاح الدين التي فقدت السيطرة على مركزها وعلى قصبات عدة، ولم ينجح ”داعش” في السيطرة على مدينة سامراء التي تمثل العصب الحساس للمحافظة بسبب ثقلها النفسي والاستراتيجي المتأتي من وجود مراقد الأئمة، فتحولت المدينة إلى قاعدة أمينة لقوة الدولة شمال بغداد وتسببت في إرباك مضاف للجماعات المسلحة. الذين خططوا للعمليات من خارج ”داعش” لم يقدروا الموقف جيدا في المجالات المعيشية والدولية، فمن جانب يستحيل توقع تعامل المجتمع الدولي مع أي كيان يقام على جزء من أرض العراق تحت راية تنظيم إرهابي، ومن جانب آخر سيكون من المعقد جدا تأمين رواتب ومتطلبات معيشة ملايين الأشخاص إذا ما بقيت مناطقهم خارج سيطرة الحكومة المركزية، كما أن من المستحيل خضوع البعثيين - لفترة طويلة - لتنظيم آخر مهما كانت صفته وأن يعملوا بصفة تبعية، وذلك لاعتبارات نفسية وتاريخية وتنظيمية، حتى لو اضطرتهم الظروف إلى القبول المؤقت لأسباب لوجيستية. وبعد أسبوع من القتال تمكنت القوات العراقية من إعادة الإمساك بزمام الأمور، بعد أن قامت بامتصاص الهجمات واحتواء قدرة ”داعش” على الضغط والتعرض، خصوصا بعد تزايد نشاط الهليكوبترات المسلحة في ضرب أرتاله وخطوط تنقله على كل المحاور في آن واحد. وبات من الواضح مواجهة الجماعات المسلحة معضلات وصعوبات جدية، ومع أنها قد تتمكن من القيام بنوع من النشاطات داخل بغداد إلا أنه من المستبعد جدا تخيل هيمنتهم عليها كلا أو جزءا. ويبدو أن الموقف الدولي قد تجاوز مرحلة الإرباك نتيجة نقص المعلومات، التي رافقت بدء الهجمات، وحددت الدول موقفها بما يزيد من الضغوط على كل الجماعات المسلحة، فضلا عما يمكن توقعه من مساندة عسكرية إيرانية ضمن حدود معينة، وما قيل عن دخول لوحدات من الحرس الثوري لم يتعد التكهنات، مع أنه من الاحتمالات المفتوحة التي يفترض توقعها، إذا ما استمر القتال ساخنا أو احتفظ ”داعش” بمواقع محددة وعمل على تحصينها بقوة.