نشب نزاع بريطاني - أوروبي بعد مطالبة المفوضية بريطانيا بدفع مليارين و200 مليون يورو أو مليار و700 مليون جنيه إسترليني. تطور النزاع ننصح المثقفين والمعلقين العرب بدراسته لاستيعاب طبيعة الديمقراطية الناضجة في تمثيل نيابي حقيقي للناخب (الاسم الأكثر استخداما: دافع الضرائب) ودور المؤسسات الاجتماعية والأساسية كمفاصل أعضاء الحركة في جسم الديمقراطية. نشب النزاع قبل أسبوعين والمجموعة الصحافية البرلمانية في صحبة رئيس الوزراء ديفيد كاميرون في لقاء مجلس القادة الأوروبيين في بروكسل. ”الفاينانشيال تايمز” نشرت تسريبات من مصادر لجنة المال والميزانية في الاتحاد الأوروبي بأن بريطانيا تلقت فاتورة بالمبلغ أعلاه إضافة إلى الفاتورة السنوية التي تدفعها الخزانة لبروكسل (سبعة مليارات جنيه إسترليني سنويا أو 55 مليون جنيه إسترليني يوميا). بروكسل تديرها مفوضية غير منتخبة لا تستطيع الشعوب عبر برلماناتها محاسبتها. ربطت المفوضية تمويل المبلغ الذي يدفعه كل بلد بمقدار الزيادة السنوية في نموه الاقتصادي والدخل القومي؛ وفي حالة تناقص الدخل القومي أو العجز في الميزانية يتلقى البلد المعني تعويضا أو دعما من بروكسل مصدره المبالغ الإضافية الزائدة، مثل المبلغ الذي طلبته بروكسل من بريطانيا يدفع في أول ديسمبر (كانون الأول).. بمهلة ستة أسابيع وتهديد بغرامات. ما استفز المستر كاميرون أنه فوجئ بالفاتورة غير المتوقعة.. لم يخبره أحد بها.. وطوال معرفتي به منذ كان مساعدا شابا في المكتب البرلماني لرئيسة الوزراء الحديدية الراحلة الليدي ثاتشر؛ ونائبا شابا؛ واختياره زعيما للمحافظين في المعارضة منذ عقد، لم أره بمثل هذه الحالة من الغضب والنرفزة. أسرع بعقد مؤتمر صحافي حضرته المجموعة الصحافية البرلمانية المصاحبة له طبعا، وحضر معنا عدد من الزملاء من مراسلي الصحافة الأوروبية. بغضب شديد قال المستر كاميرون ”تحت أي ضغط وتحت أي ظروف.. لن أدفع مبلغ مليارين و209 آلاف يورو في أول ديسمبر مثلما يطلبون”.. طبعا كان كاميرون يعبر عن رأي الأغلبية من البريطانيين الذين ضاقوا ذرعا من دس بروكسل أنفها في شؤونهم الداخلية ومن المهاجرين الأوروبيين الذين يزاحمونهم لقمة العيش بأجور أقل ويشكلون عبئا على الخدمات. الإهانة الكبيرة لدافع الضرائب البريطاني أن الفاتورة الإضافية التي تطالب بروكسللندن بدفعها تبدو عقابا على النجاح الاقتصادي بتضحيات البريطانيين بإجراءات تقشف أربعة أعوام حُرم العاملون خلالها من العلاوات وعانوا من تناقص الخدمات. في اليوم نفسه سرب مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل (الحاكم الفعلي لأوروبا) خبرا لمجلة ”دير شبيغل” بأن تصريحات كاميرون عن حد هجرة مواطني بلدان الاتحاد الأوروبي إلى بريطانيا غير مقبولة، لأن حق حرية الانتقال بين مواطني بلدان الاتحاد غير قابل للمناقشة أو التعديل. أول من أمس (الجمعة) خاض وزير المالية البريطاني جورج أوزبورن معركة نقاشية مع وزراء المالية الأوروبيين. غالبية وزراء المالية من منطقة اليورو تلقت بلدانهم تعويضات بمئات الملايين وبالتالي وجد نفسه أقلية في مواجهة أغلبية، وبالتالي لم يكن يستطيع أن يحسم شيئا لصالح بلاده بالتصويت. الأرقام نفسها تدعو للتساؤل، فالمفوضية شملت أرقاما يستحيل على أي وزارة مالية في العالم إدخالها في حساباتها لتدخل الخزانة أو تجدها في السجلات. المفوضية شملت أرقاما من بيوت الدعارة وبنات الهوى وكازينوهات المراهنات غير المرخصة، وتجار البضائع المهربة من الجمارك والتجارة في المواد الممنوعة كالمخدرات والأدوية والبضائع الصغيرة المزيفة والعمالة في السوق السوداء. فالخزانة في معظم البلدان تمتلئ من ضرائب الدخل، وضرائب أرباح الشركات والضرائب المضافة كالتمغة أو رسوم البيع والشراء أو القيمة المضافة، لكن السوق السوداء اكتسبت اسمها من غياب الشفافية، أي استحالة تسجيل أو معرفة مساهمتها في الدخل القومي. صحيح أن العاملين في السوق السوداء ينفقون بعض مداخيلهم في المواصلات العامة وشراء البضائع الاستهلاكية؛ لكن ما ينفقونه تم حسابه بالفعل في تمغة المبيعات أو القيمة المضافة للبضائع. أما البضائع المهربة والخدمات فهي في الواقع على العكس تماما من تقديرات بروكسل، لأن الخزانة البريطانية حرمت من رسوم الواردات التي تفرضها مصلحة الجمارك على هذه السلع. هذه المعلومات المفصلة كشفتها الصحافة عندما انكب الصحافيون على التفتيش في هذه الأرقام والسجلات، وعرضوا المسؤولين في الاتحاد الأوروبي لأسئلة محرجة عن طريقة الحساب التي أوصلتهم إلى هذه الأرقام. الصحافة أيضا كشفت قصورا في عمل وزارتي الخارجية والمالية، حيث لم تتيقظ الأولى لمتابعة عمل لجان المفوضية الأوروبية. أما وزارة المالية فكانت تلقت بالفعل تحذيرا بزيادة هائلة في فاتورة حساب المفوضية، وتسلمها موظف صغير ولم يخبر داوننغ ستريت (مكتب رئيس الوزراء) قبل انتقال الزعيم البريطاني للسفر. وزير المالية أوزبورن قضى ساعات طويلة يوم الجمعة في مناقشات مع نظرائه الأوروبيين، وخرج مبتسما ملوحا مدعيا أنه استطاع الانتصار على أوروبا، وأنه سيدفع فقط نصف المبلغ، أي 850 مليون جنيه في يونيو (حزيران) المقبل (بعد الانتخابات العامة بشهر). هذه المرة اشتركت الصحافة البرلمانية مع نواب، معظمهم من حزب الحكومة، في تحليل الأرقام التي ادعى وزير المالية أنها انتصار أحرزه. وكشفت التحقيقات الصحافية أنه انتصار أجوف لأن فارق الأرقام هو من التعويضات (Rebate) التي تتلقاها بريطانيا سنويا مقابل تكاليف إضافية وخسائر التبادل، وهو ما كانت السيدة الحديدية ثاتشر قد حصلت عليها قبل ثلاثة عقود. الصحافة أيضا ذكرت القراء والمشاهدين بأن رئيس الوزراء العمالي الأسبق توني بلير خسر نصف هذه التعويضات في معاهدة لشبونة. وحتى ساعة ذهابنا للطبع فإن الجدل لا يزال دائرا، بين حكومة كاميرون في ناحية، والمعارضة (تدعمها شريحة مهمة من الناخبين) في ناحية أخرى، هل بالفعل حقق وزير المالية أوزبورن انتصارا أم أنه تلاعب في الأرقام وشرب دافع الضرائب البريطاني المقلب؟ الدرس المستخلص هنا أنه رغم وجود برلمان منتخب هو الأقدم في العالم والأكثر اكتمالا للنموذجية الديمقراطية فإنه لا يكفي وحده كرقيب على الحكومة ومسؤول عن محاسبتها؛ خاصة أن الحكومة دائما تتمتع بالأغلبية في البرلمان. المجموعة الصحافية البرلمانية التي تصاحب رئيس الوزراء في تنقلاته وأسفاره (وهي من محرري الشؤون البرلمانية وليس رؤساء التحرير كحال الصحافة العربية. فرئيس تحرير صحيفة قومية في بريطانيا يرى نفسه أهم وأقوى من رئيس الحكومة) ليست من قبل المتعة أو ”الفشخرة”، بل لوضع رئيس الحكومة تحت المراقبة كعين الشعب، قراء ومستمعين ومشاهدين. فالصحافة كسلطة رابعة هي مؤسسة من أعمدة الديمقراطية، والمجموعة الصحافية البرلمانية مؤسسة أخرى؛ ورغم أنها غير منتخبة، فإن الديمقراطية لا تكتمل دونها.