”والذِينَ آمنُوا أشدُّ حبًّا لِلَّهِ”(البقرة) يقول ابن عطاء الله السكندري: ”ما أحببت شيئاً إلاَّ كنت له عبداً، وهو لا يحب أن تكون لغيره عبداً”. قالوا: المحب يظل أسيراً لمحبوبه.محكوم له ولا يتأتى منه أن يكون حاكماً، باذل له ولا يتأتى منه أن يكون آخذاً، مستسلم لقبضة التصرف به، دون أن يكون متصرفاً، وليست العبودية شيء أكثر من هذا. وهذا الذي قالوه صحيح، إن أريد بالحب معناه الحقيقي.. إذ لا يأتي معناه الصحيح إلا بأن يهب المحب كلّه لمن يحب، فإن بقي جزء منه في حوزة المحب ضنينا به محافظاً لنفسه عليه، إذن فحبه موزع بينهما، ولربما ضحى بأحدهما في سبيل الآخر، وتلك هي الشركة التي تتعارض مع حقيقة الحب وجوهره. فإذا أحب العبد شيئاً غير الله عز وجل هذا الحب الحقيقي، فلابدّ أن يغدو أسيراً له، ومن ثم عبداً له. لا فرق في ذلك بين حب الأشخاص والأموال والمدخرات، والرئاسة والشهرة، والرغائب الغريزية المعروفة. ولربما جاء من يناقش في هذه الحقيقة فيقول: إن المحب مهما اتجه بحبه إلى صور وأشكال، أو إلى مغانم وأموال، أو إلى مراتب وزعامات، فإن مردّ حبه هذا، في واقع الأمر وحقيقته، إلى ذاته هو. إذ هو إنما يمتع نفسه بالشيء الذي يحبه، أياً كان نوعه، ولو أنه لم يرى في حبه له متعة نفسه لما أحبه، فهو إن غدا أسيراً بسبب حبه هذا، فإنما يصبح في الحقيقة أسيراً لذاته، وكل إنسان مفطور على أن يحب ذاته، وأن يكون أسيراً لما تتطلبه ذاته من مقومات السعادة وأسباب الحياة ورغد العيش. والجواب أن في الحب ما يكون مظهره للغير، من أشخاص وأموال وأعيان ونحوها، ولكن تكون حقيقته للذات، أي لذات الحب. غير أن فيه أيضا ما يكون مظهره وجوهره للغير، دون أن يكون للذات مدخل فيه. ولا ريب أن النوع الأول هو الأكثر شيوعاً والأوسع فهماً وتعاملاً بين الناس، إذ المحبوب الأول لكل إنسان إنما هو ذاته، ثم ما يسري إلى ذاته ويتعلق بها، من المال والأهل والعشيرة وذوي القربى. ولكن النوع الثاني أيضا موجود، وإن كان أقل من الأول شيوعاً وشمولاً، وهذا النوع هو الحب الحقيقي. ومن أوضح الأدلة على أن في الحب ما يكون مردّه إلى المحبوب، لا إلى شخص المحب، ما هو ملاحظ من تعلق قلبه بشخص ما لجماله وَمَحضَه حبَّه، فإنه يضحي-إذا اقتضى الأمر-بحظوظ نفسه في سبيل محبوبه، وربما عرّض جسمه ونفسه للآفات والآلام والأسقام في سبيله.بل الشأن فيه أن يزهد في المناصب والرتب وأن يعرض عن حظوظ الزعامة والرئاسة، في سبيل الإبقاء على مجرد الأنس بمحبوبه، وألا يتعرض لوحشة الابتعاد عنه، بل مجرد الحيلولة دون رؤيته، ولعلك تعلم أن الملك إدوارد الثامن، ملك بريطانيا تخلّى عن عرش الأمبرطورية البريطانية في سنة 1937 في سبيل امرأة من عامة الشعب البريطاني عشقها وهام قلبه بها، وهي: مسز سمبسون فأي حظ ساقه إليه الحب الذي جرده من عرش ملكه وسائر ما يتبعه من ذيول الرفاهية والأهبة والنعم. إلى حظ الحب ذاته الذي تغلب في شعور صاحبه على سائر اللذائذ والمتع المادية والمعنوية على اختلافها؟.. ولقد قالوا إن قيسا العامري الذي اشتهر اسمه بمجنون بني عامر، لما حيل بينه وبين ليلاه واستيأس منها، وأرمضه الحب وأضناه، أشفق عليه أبوه ومضى به إلى بيت الله الحرام رجاء أن يدعو الله لنفسه بالشفاء من حبه فيستجاب دعاؤه، فلما صار عند الكعبة، قال له أبوه:تعلق بأستار الكعبة وادع الله أن يعافيك من حب ليلى، فتعلق بأستارها ولكنه قال:اللهم زدني ليلى حباً، وبها كلفاً، ولا تنسني ذكرها أبداً. فهذا حال إنسان تخلى عن حظوظ جسمه ونفسه وراحة قلبه، في سبيل الحب ذاته، بل في سبيل آلام الحب وعذابه. إذا تبين لك هذا فلنعد إلى بيان ما كنا بصدده: سواء أكان الحب من النوع الذي يبتغي به المحب مصالح نفسه ورغائبها أو من هذا النوع الثاني الذي لا غرض فيه للمحب إلا الركون إلى عذاب الحب ذاته، فإن الشان فيه أن يجعله أسيراً لمن ولما يحب، ولا يكون الإنسان أسيراً لشيء إلا وهو عبدٌ له ينطبق هذا على حب المال، وحب المناصب والجاه، وحب الأشخاص، وحب الصور والأشكال، أي بقسميه المجازي والحقيقي اللذين أوضحناهما الآن. وهنا نصل إلى الغاية المرادة من هذه الحكمة، وهي أن الله عز وجل لا يحب أن تكون عبداً لغيره عز وجل، وإنما سبيل التحرر من هذا الذي لا يحبه الله تعالى، أن يتجه قلبك بالحب إليه هو دون غيره، أو على الأقل أن تكون محبتك لله هي الغالبة على حب ما سواه، أي أن تكون ممن قال الله عنهم: ”والذينَ آمنُوا أَشَدُّ حبَّا” وبذلك تتمحض عبوديتك له وحده.. على أن الله غير محتاج لهذه المحبة، فمحبته لأن يكون الإنسان عبدٌ له دون غيره، من مقتضيات محبته له، وليست من مقتضيات محبته تعالى لذاته، أوغيرته-والعياذ بالله-من الأغيار. ذلك لأن وقوف الإنسان في أسر الحب لشيء أو كائن ما، يكسوه رداء المهانة والذل لذلك الشيء، وعندئذ تلازمه صبغة المهانة في كل الأحوال وأمام كل من يعلم منه هذا التعلق والأسر.. إذن فإن الله يحب لك يا ابن آدم أن تمارس حريتك التي جعلها الله توأما لك منذ ولادتك، وأن تتمتع بها في نسيج صلاتك وعلاقاتك مع الآخرين، وإنما السبيل إلى ذلك أن تكون عبداً له وحده، وأول معين للعبودية الحب!.. فاجعل إذن حبك لله وحده، أو اجعل حبك له هو المتغلب على كل ما سواه، تكن عندئذ عبداً له وحده، وذلك هو الثمن الذي لابد منه لتحرز حريتك ولتتمتع بها في تقلباتك وحياتك الاجتماعية كلها . يقول صريع العشق الإلهي ابن الفارض: أنت القتيل بأيِّ من أحببته