موجة التعاطف مع صحيفة شارلي إيبدو جراء العملية الإرهابية التي استهدفت صحافييها ورساميها وأعوان الأمن، ومسيرة باريس المنددة بالإرهاب، والداعية لحماية مبادئ الديمقراطية وحرية التعبير، أمس، لا يمكن أن تعطي هذه الجريدة الحق في استفزاز مشاعر المسلمين، وتتمادى في الضحك على معتقداتهم، مثلما جاء في العدد الخاص أمس. شخصيا مع حرية انتقاد الأديان ومناقشة الفتاوى المبررة للعنف، ومع مراجعة كل دين لمبادئه لتتلاءم مع متطلبات العصر ومع تطور الفكر الإنساني، والأمر لا يتعلق فقط بالإسلام الذي وضعه أهله بسبب تبنيهم للعنف والإرهاب والتقتيل، وإنما لكل الديانات، وكل الديانات تحمل تطرفا، سواء كانت الديانة اليهودية التي هي الأخرى تبرر القتل، أو المسيحية، فالعنف ليس حكرا على الدين الإسلامي، فإسرائيل الدولة التي قامت على الدين تحتل المرتبة الأولى في العنف الذي يبرره كيانها والمستمد من معتقداتها. لكن أن يخصص عدد كامل للضحك على الرسول، وحده دون غيره، لأن غبيين وباسم الإسلام نفذا مجزرة في حق أناس أبرياء، تعمد الصحيفة ومن أجل تحقيق مكاسب عجزت عن تحقيقها بسبب نبذ شريحة واسعة من الفرنسيين لها، لتهكمها على الكل ولأنها تدوس على المعتقدات وعلى قيم كل الشعوب، ونسي المشرفون عليها أن ما قاموا به استفزاز للملايين من المسلمين المسالمين، ومنهم من عانى من الإرهاب ومن دفع ثمن التطرف في بلاده. ومثلما لا يمكن تبرير القتل مهما كانت الأسباب، ومثلما توجب على كل محب للحرية وحرية التعبير، التنديد بجريمة شارلي إيبدو، وجريمة المحل اليهودية، وكل الجرائم المقترفة باسم الإرهاب سواء كان اسلاموي أو صهيوني أو باسم الديانة المسيحية وهي كلها جرائم ضد الانسانية، وجب اليوم التنديد بما جاء في صحيفة شارلي إيبدو من انتقام من الإسلام، ومن المسلمين دون تمييز، والاستمرار في هذا التوجه الذي يدوس على قواعد المهنة وعلى مبادئ حرية التعبير، التي هي الأخرى لها حدودها وضوابطها، هو دعوة غير مباشرة لزرع الأحقاد، ضد مسلمي أوروبا، بل ضد المسلمين في كل بقاع الأرض. يمكن أن نختلف مع المسلمين في الكثير من أوجه الحياة، ويمكن أن ننتقد بكل حرية التطرف المنسوب إلى الدين الإسلامي والذي تتخذه القاعدة أو داعش أو غيرها من الجماعات الإرهابية التي تقتل باسم الإسلام أو باسم الدفاع عن الرسول أو الله أو غيرهما، لكن لا يمكن أن تتنكر الإنسانية وأوروبا تحديدا لأفضال هذا الدين عليها، وأفضال علمائه وما قدموه من رسالة تنوير لمجتمعاتها لما كانت ترزح في ظلام القرون الوسطى، لما كان وقتها العالم الإسلامي يعيش أوج حضارته التنويرية، وعرفت كل الأقليات الدينية تحت حكمه من يهود ومسيحيين الاحترام والتمتع بكافة الحقوق التي يتمتع بها المسلمون ومارسوا دينهم ومعتقداتهم بكل حرية واحتلوا أعلى المناصب في دول مثل الأندلس، وتاريخهم قبل أن تمحو الحركة الصهيونية ذاكرتهم الجماعية، وبذلك ما زال فلاسفة إسرائيليون يكتبون ويشهدون أن اليهود لم يعرفوا الاحترام والتقدير مثلما عرفوه تحت الحكم الإسلامي. الرئيس الفرنسي هولاند، ورئيس الوزراء فالز قالا في خطابيهما إن فرنسا تقود حربا ضد الإرهاب وليس ضد دين معين، وليس ضد الإسلام، لكن يبدو أن شارلي إيبدو ومن سار في نهجها يثبتون العكس، فبعد أن صارت شارلي إيبدو المنبوذة سابقا من قبل الجميع، قلعة لحرية التعبير وحرية الرأي ومثالا للديمقراطية ومدافعا عن قيم الجمهورية، وبالصورة التي أرسلتها أمس للعالم، فإن فرنسا بهذا الشكل تؤسس لصراع حقيقي بين الديانات، فهل تأكدت نبوءة هانتينغ تون؟!