ليست الأيام السورية الأخيرة كسابقاتها، وهذه ليست دعاية أو تبشيرًا، يقدمه معارض لنظام الأسد، ولا هي محاولة لإشاعة أمل كاذب للسوريين الذين، بعد كل ما عانوه، صار من الصعب عليهم أن يصدقوا كل ما يقال، أو يوحى به من قريب أو بعيد، بل صاروا أكثر تدقيقًا في كل خبر أو حادثة وفي كل ما يبدو من تطورات واحتمالات، تحيط بالقضية السورية. مجموعة الحقائق لا تتصل بما يجري في الداخل السوري وحده، رغم أنه الأساس، إنما تمتد إلى ما هو أبعد في البيئة الإقليمية والدولية المتصلة بقضية السوريين، والتي تشكل عنصرًا قويًا ومؤثرًا في القضية، التي لا شك أنها قضية إقليمية ودولية بمقدار ما هي قضية سورية، وإن اختلف المعنيون والمتابعون في تقدير أهمية الداخل والخارج بنسب معينة. أهم الحقائق السورية، يمكن رؤيتها من بعدين داخلي وخارجي؛ أول حقائق البعد الداخلي، تتعلق بنظام الأسد الذي أصيب في الفترة الأخيرة بخسائر عسكرية كبيرة على جبهتي الصراع في الجنوب والشمال معًا.. ففي الأولى تم إفشال هجمته مع حلفائه الإيرانيين وحزب الله على درعا والقنيطرة، وأدى الهجوم المعاكس لقوى المعارضة العسكرية لخسارته موقعين مهمين في بصرى ومعبر نصيب الحدودي مع الأردن، وفي الشمال تم طرد قواته من إدلب ثم من جسر الشغور، وكادت محافظة إدلب تخرج كاملة عن سيطرته في وقت أصبح فيه مطار أبو ظهور محاصرًا ومحتمل السقوط بين لحظة وأخرى بعد أن صمد لأكثر من عامين في وجه قوات المعارضة، التي تحركت في ريف حماه الغربي وسط إحساس باقتراب نصر كبير، فيما قوات النظام في وضع الإحساس الخانق بالهزيمة، الأمر الذي يبدو مرتبطًا بالزيارة المفاجئة لوزير دفاع النظام إلى إيران لبحث العلاقات العسكرية بين الجانبين. وإذا كانت حال مؤسسة النظام العسكرية في تراجع ملموس، فإن المؤسسة الأمنية للنظام، ليست أفضل حالاً بعد أن طفت فيها رائحة الصراع بين جنرالاتها، ومنها صراع معلن بين رئيسي المخابرات العسكرية والأمن السياسي اللذين أقالهما بشار الأسد مؤخرًا، واستعاض عنهما بشخصين قيل إنهما هامشيين في قائمة جنرالات المخابرات، قبل أن يعلن موت اللواء رستم غزالي أحد صناديق أسرار النظام، وقد قيل إنه كان يحضر لعملية فضح للنظام على الشاشات المرئية، وربما انشقاق معلن لشخص، ربما هو الأهم بين شهود المحكمة الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، وكله سبق تسريبات سورية عن مرض يضرب رجل المخابرات القوي في دمشق اللواء علي مملوك الذي كان شديد القرب من بشار الأسد في السنوات الأربع الماضية، وقد يكون ذلك مؤشرا لاختفائه وربما قتله في إطار تغييب صناديق معلومات النظام وأسراره، وهو الرجل المتهم بقضية إرسال المتفجرات إلى لبنان عبر الوزير الأسبق ميشال سماحة، المعروضة قضيته أمام القضاء اللبناني. وثمة حقيقة أخرى على الصعيد الداخلي، تتصل بنظام الأسد وعلاقته مع حاضنته الاجتماعية، حيث تتوالى الافتراقات بينهما، وقد ازدادت تعبيراتها بالظهور على نحو صارخ في الأيام الأخيرة، بدءًا من احتجاجات في المدن والقرى ”العلوية” على ازدياد القتل بين أبنائها من ضباط وجنود وعناصر مخابرات بعد المعارك الأخيرة في الجنوب والشمال وفي جبهة القلمون، إضافة إلى صراعات داخل عائلة الأسد ذاتها لأسباب تنافسية، وامتدت الصراعات إلى حي الزهراء بحمص، حيث قامت قوات النظام باقتحامه بعد تمرد لقوات الدفاع الوطني وعناصر الشبيحة هناك، فيما تجري اتصالات بين قوات المعارضة وبعض قرى في منطقة الغاب للوصول إلى تسليم تلك القرى لقوات المعارضة المسلحة بأقل قدر من الخسائر للجانبين. وبطبيعة الحال، فإن الحقائق السورية في منظورها الداخلي، لا تتصل بالنظام وحده، بل بمعارضيه أيضًا. وإذا كانت المعارضة السياسية، تستجر أزمتها المتواصلة منذ أربع سنوات ونيف، ولا يبين لها مخرج من هذه الأزمة لأسباب تتعلق ببنيتها وعلاقاتها، فإن تشكيلات المعارضة العسكرية، اتخذت خطوات، أعادت تأكيد وجودها في الواقع السوري، لا سيما في موضوعين أساسيين؛ أولهما إعادة دمج قواها المتنافرة والمتصارعة في أطر عسكرية شبه وحدوية على نحو ما حصل في تشكيلات الجيش الحر بالجنوب، وتشكيل جيش الفتح في الشمال، والمجلس العسكري في دمشق، مما هيأ لها فرصة الدخول في معارك عسكرية رابحة على كل الجبهات. والموضوع الثاني الذي سارت عليه التشكيلات العسكرية، هو الانخراط في مواجهة التطرف الديني من خلال إعلان ”داعش” جماعة معادية، واعتبار ”النصرة” في الجنوب جماعة متطرفة، وتصفية امتداد ”داعش” في محيط دمشق الشمالي، والضغط على ”النصرة” في الشمال لتغير في استراتيجيتها، وانخراط عميق في إطار التشكيلات المسلحة في الحرب ضد النظام ومنعها من دخول مواجهات مع التشكيلات الأخرى. وقد شكل هذان التحولان في مسار المعارضة العسكرية فرصة لتعزيز الثقة الإقليمية والدولية بها، مما أتاح فرصة أفضل لدعمها، وإن كان هذا الدعم ما زال محدودًا. أما في المنظور الثاني من الحقائق السورية الجديدة، فإن أولها يتعلق بعلاقات النظام مع حلفائه الذين شكلوا قاعدة بقائه لأكثر من أربع سنوات، عجز فيها عن حسم الصراع لصالحه، كما عجز عن الوصول إلى تسوية سياسية بأي مستوى كان، رغم كل المساعدات اللامحدودة التي قدموها، وعجزهم عن إعادة تسويقه للرأي العام والمجتمع الدولي بوصفه قوة دفاع عن الأقليات، وفي الحرب ضد الإرهاب، وكلاهما ادعاء كاذب، وقد تعمق إحساس الروس والإيرانيين وحزب الله بفشل النظام في ضوء تطورات الصراع العسكري والخراب الذي ينخر مؤسسات النظام وعلاقاته الداخلية، وقد توالت في الفترة الأخيرة تعبيرات عن تغييرات في علاقة النظام مع حلفائه الأساسيين، ومنها توجه الروس نحو أطراف المعارضة السياسية من أجل تسوية للقضية السورية، وضغط الإيرانيين لأخذ موقع رئيسي في القرارات السورية، وتوجه حزب الله لتخفيف وجوده العسكري ومشاركته في حرب النظام ضد السوريين. وثمة نقطة أخيرة في الحقائق السورية الجديدة، تتعلق بتغييرات البيئة الإقليمية والدولية المتصلة بالقضية السورية، والأبرز في هذا الجانب ما أفرزته ”عاصفة الحزم” والتحالف العربي في الحرب ضد الحوثيين في اليمن عبر استخدام القوة مترافقة مع الطرق الدبلوماسية، والدخول القوي في مواجهة مباشرة مع السياسة الإيرانية وامتداداتها في المنطقة، وكذلك التقارب الثلاثي السعودي - القطري – التركي، وهو تقارب يجمع دولاً لها موقف متقارب من القضية السورية أساسه دعم مطالب السوريين في التغيير، والسعي لتغيير النظام وإنهاء الكارثة السورية، وهي مساعٍ باتت تحظى باهتمام ودعم قوى عالمية أكثر من أي وقت مضى.