في الرابع من هذا الشهر اتجهت عيون العالم نحو كندا: البلد الذي لا يظهر كثيراً في نشرات الأخبار ولا يثير الاهتمام إلا نادراً. في كندا ذاتها كان الوضع أشبه بعيد قومي رافق أول ظهور لرئيس الوزراء الجديد جاستن ترودو أمام الجماهير. وقف بينهم يلتقط صور ”السلفي” ويتجاذب أطراف الحديث، معلناً تشكيل حكومته المميزة من 15 وزيراً و15 وزيرة رفيعي المستوى من مختلف الخلفيات المذهبية والإثنية، منهم بالأخص هارجيت سجان السيخي المذهب والهندي المولد الذي شغل وزارة الدفاع، ومريم منصف وزيرة المؤسسات الديموقراطية الأفغانية المولد التي لجأت من أفغانستان في طفولتها، وأمارجيت سوهي وزير البنية التحتية والجماعات الذي لجأ إلى كندا بعد عامين من الاعتقال والتعذيب في الهند أواخر الثمانينات. وحين سئل ترودو عن سر اختياره هذه الحكومة أجاب باقتضاب مرح: ”لأننا في 2015”. طفت موجة إعلامية إلى السطح تتناقل أنباء تحول جذري في تلك الدولة الباردة إلى مناخ قد يكون الأدفأ (بالمعنى العاطفي) في العالم بأسره. إنما لم يدم هذا الانبهار الإعلامي طويلاً، ولم تحفل به سوى قلة أغلبها من السوريين الذين لا يزال حدث كهذا يشكل خبز أحلامهم اليومي. وإذا كان من حق الكنديين أن يفرحوا بعبور عقد بارد من حكم المحافظين نحو حكومة أكثر انفتاحاً وتنوعاً، فمن حق السوريين الحلم بيوم كهذا، بعد عقود طويلة من الاضطهاد وسنوات من القتل والدم والخراب. لم تلبث أحداث باريس ومشابهاتها أن غطت على كل ما في هذه الصورة الوردية لعام 2015. إذ احتلت ”داعش” موقع الصدارة في صناعة الرأي العام والتاريخ من حوله، وراحت تستقطب كل يمين في العالم لمحاربتها بالحديد والنار. في الآن ذاته عادت تطفو من جديد الموضوعات القديمة المرتبطة ب ”الإرهاب بوصفه عربياً” و ”الإرهاب بوصفه مسلماً” مع إضافة جديدة تقترح التعامل مع الإرهاب ”بوصفه سورياً”. وعلى رغم أن أحداث باريس وما تلاها لم تثبت أياً من هذا بشكل واضح، ففكر اليمين المتطرف سرعان ما انتشر كالنار في الهشيم في دول أوروبا والولاياتالمتحدة لتبدأ الدول والولايات والمقاطعات برفع راية رفض استقبال اللاجئين واحدة بعد أخرى. في كندا، لم تكن الأصوات المطالبة بهذا أقل حدة، ولم تتوقف العرائض التي تحوي عشرات آلاف الأسماء التي تطالب رئيس الحكومة الحديث العهد بإلغاء التعهد الذي قطعته كندا على نفسها باستقبال عشرة آلاف لاجئ سوري في شكل عاجل، والتي رد عليها بتجديد التزامه بالتزامن مع قطع تعهد آخر بإلغاء التأشيرة الكندية للمواطنين المكسيكيين وطالبي اللجوء، مشيراً إلى أن أي احتمال خطر أمني يجب أن يجابه بالتأني في دراسة ملفات طالبي اللجوء لا برفضها. لا شك في أن الصيحات والنداءات التي انطلقت من فرنسا من قبل نشطاء مجتمعيين وجمعيات حقوقية، تنادي بمحاربة الظلام بالنور والتشدد بالانفتاح، ليست إلا محض نداءات طوباوية إذا نظرنا إلى التغيرات السياسية والإعلامية الجديدة التي تتشكل غرباً وتسير يميناً في أوروبا والولاياتالمتحدة. وبينما يحاول هؤلاء اللاجئون الوصول إلى حياة تتضمن الحد الأدنى من الكرامة، يغرد الإمبراطور الإعلامي الملياردير روبرت مردوخ من عليائه مطالباً الولاياتالمتحدة بعدم استقبال اللاجئين السوريين ”إلا من يثبت أنهم مسيحيون!”، وتعلن ثلاثون ولاية أميركية أنها، على رغم أنف القانون، سترفض أي طلب لجوء للسوريين. ثمة ربط غبي وغريب بين التعاطي مع الإرهاب وابنه داعش والتعصب الأعمى والكراهية لكل غريب، في الوقت الذي لا يمضي فيه يوم في تحقيقات باريس من دون أن يثبت جلاء ووضوح الوجوه ”الأوروبية” التي انقلبت على موطنها. في الاجتماع الأول الذي جمع رئيس الوزراء ترودو بالرئيس الأميركي باراك اوباما، أكد ترودو أن كندا ستقوم ”بأكثر من دورها” في محاربة الإرهاب وتنظيم داعش على وجه الخصوص، مع تأكيده في المقابل أن على كنداوالولاياتالمتحدة أن تشكلا ثقلاً لسنّ مزيد من الاتفاقات الملزمة لمجموعة العشرين وباقي دول أوروبا، والتأكيد على الاستمرار في سياسة التوطين الفاعل للاجئين في أميركا الشمالية. فهل كندا اللاعب الوحيد الذي لا يرى تناقضاً بين الانفتاح ومكافحة الإرهاب؟ وهل على دول أوروبا أن تعيد سيناريو ما بعد 11 أيلول (سبتمبر) عقداً آخر من الزمن حتى تدرك مدى فداحة النتائج؟ أم أن بإمكاننا التفاؤل والنظر إلى مستقبل أكثر استفادة من تجربته وتعلماً من أخطائه؟ بعد هذه الصورة الحالمة التي رسمها لنا في 15 يوماً من توليه السلطة، لا يزال يحدوني الأمل بانتظار ترودو آخر في فرنسا، وثالث في ألمانيا، ورابع في بريطانيا... وربما في سورية يوماً ما... ربما.