لم تبق الحرب الباردة بين المعسكر الشيعي والمعسكر السني، بين إيران والمملكة السعودية، باردة، فها هو دخان الصراعات في المنطقة يملأ الفضاء، في هذه السنة التي تنذر بكل الكوارث. هل كانت المملكة في حاجة إلى تنفيذ الإعدام في شخص نمر النمر بهذه الطريقة الفجة لو لم يكن في نيتها إخراج الصراع إلى ساحة الحرب، بعد فترة ليّ الذراع على الأراضي السورية وفي كواليس السياسة اللبنانية. صراع بين قوتين نفطيتين، تريد كل واحدة منهما أن تكون اللاعب الرئيسي في آسيا الإسلامية، وتريد كل واحدة منهما إلغاء الأخرى لتكون المرجعية الدينية الوحيدة، ولذلك وضعت كلتاهما المؤسسة الدينية في واجهة الصراع محاولة استقطاب المسلمين حولها للتأثير في منطقة الشرق الأوسط، في هذا الوقت الذي تعاد فيه صياغة خريطة المنطقة من خلال النظام الذي تم تفصيله في مخابر أمريكا وإسرائيل. من أوعز للمملكة بإشعال نار الحرب؟ حرب ستحصد المزيد من أرواح شعوب المنطقة التي أنهكتها عقود من الصراعات، وتستنفد المزيد من الثروات، وتستهلك المزيد من الأسلحة، فقد كانت هذه الحرب غاية السباق نحو التسلح الذي تنافست عليه منذ عقود الجمهورية الإيرانية والمملكة العربية السعودية، إلى جانب سباق الخطاب الديني العدائي للدولتين. حرب وقودها الطائفية المقيتة، بعد أن أخرج المخططون لها بعبع الصراع الطائفي من القمقم، إدراكا منهم أنه سيكون أكثر الأسلحة فتكا، وبأقل التكاليف لهم. لا حاجة للقول إن المستفيد من هذه الحرب لن تكون لا إيران ولا المملكة ولا المنطقة كلها باستثناء إسرائيل. فإسرائيل وحليفتها أمريكا أكبر المنتفعين من هذا الصراع الذي خطط له برنار لويس منذ عقود، عندما اهتدى إلى قنبلة الطائفية والفوائد التي ستجنيها أمريكا وإسرائيل من وراء زرعها لمنع قيام أية قوة إسلامية على هذه الأرض، قوة يكون بإمكانها تهديد إسرائيل. وحتى لا تستفيد المنطقة من ثرواتها النفطية باستغلالها في بعث نهضة اقتصادية ورفاه اجتماعي. ولأنها لم تستسغ خسارة إيران الشاه بعد الإطاحة به من طرف نظام الملالي، اهتدت إلى افتعال حرب بين إيران وعراق صدام، وكانت النتيجة إضعاف إيران من خلال حرب استنزاف لثماني سنوات، ومن ثم إدخال صدام في متاهة الصراع مع دول الخليج بعد اعتدائه السافر على الكويت. لكن إيران رغم العقوبات ومحاولات تضييق الخناق عليها ومنعها من إقامة أي علاقات صداقة وتعاون مع دول الخليج الثرية، تمكنت من بناء قوة اقتصادية وعسكرية لتفرض نفسها من جديد كلاعب أساسي في المنطقة، وهكذا أجبرت أمريكا والاتحاد الأوروبي على الجلوس إلى طاولة الحوار، انتهت بتوقيع اتفاق شامل، رفعت من خلاله العقوبات التي فرضت عليها لأزيد من 12 سنة. وليس اعتباطا أن ترتفع حدة الصراع والإنذار بانفجار حرب بين البلدين تزامنا مع بداية تنفيذ اتفاقية رفع العقوبات، التي من المتوقع أن تعطي متنفسا حقيقيا للاقتصاد الإيراني بدخول سوق صادرات النفط من جديد. لا حاجة أيضا للقول إن تفاقم الأزمة بينهما، سيجر كل من البحرينوالكويت في المعركة بسبب المكون الشيعي في المجتمعين. لكن تبقى النار الكبرى في البيت السعودي الذي سيعيش حربا طائفية في الداخل بسبب استفزاز شيعة القطيف بتنفيذ حكم الإعدام في نمر النمر، ولم تكتف بهذا، بل ألقت بجثته من الطائرة نكاية في الشيعة. ما زالت الفرصة سانحة لتغليب العقل وتفادي شعبي البلدين صراعا مدمرا، هم في غنى عنه، وعلى من بإمكانه لعب وساطة الآن لتجنيب الكارثة أن يتدخل لإخماد الحريق، وأعتقد أن على الجزائر التي عرفت بالرصانة ورجاحة العقل في مثل هذه القضايا أن تتدخل بأقصى سرعة للعب هذا الدور ومنع النافخين في الرماد من دفع دفة الصراع أكثر. ومثلما حاولنا الوقوف في وجه الخراب، الذي استهدف العراق وسوريا وليبيا وباقي دول المنطقة، لن نقبل بأي مخطط لضرب المملكة أو حتى إيران ولا غيرها من دول الخليج. أوقفوا هذه النار فإنها مدمرة! حدة حزام ********** في وداع آيت أحمد - 3 - استقل الرئيس السيارة إلى جانب سائقه طالبا منه أن يعود من جديد إلى قصر المرادية، وكان الوقت ليلا، ولأنه ليس من حقه أن ينام إلى أن ينتهي من مهمته هذه ويعود إلى مثواه في مقبرة العالية، فضل أن يمضي هذه الليلة، ليلة رأس السنة الميلادية قريبا من القصر الذي عاش بين جدرانه سنوات مجده. ”لنحاول الوصول إلى القصر الرئاسي من الجهة الأخرى”، يأمر السائق، فيستجيب هذا الأخير لطلبه، وهو يعرف أن دخول المرادية مستحيل هذه الأيام، فمنذ انتفاضة الشرطة السنة الماضية واعتصامهم بساحة محمد الصديق بن يحيى أمام الرئاسة مطالبين برحيل المدير العام للأمن، صارت الحراسة مشددة حوله بعد أن كلف بها الحرس الجمهوري، فالأوضاع خطيرة، والرئاسة لم تعد تثق في الشرطة، يشرح الأمر للرئيس. لكنه يصر على موقفه، فهو لم يستوعب دائما سبب هذا المنع، كان يتصور أنه بمجرد الوصول إلى المرادية، يسارع الجميع إلى فتح الأبواب ويلاقى بالفرح والترحيب. أليس هو بومدين؟ أليس هو الرئيس؟! تحركت ”الدي أس” ببطء دائما، وسط زحمة المرور على طول الشوارع المحاذية لشارع سويداني، أين مقر جبهة القوى الاشتراكية، مع أن ساعة الصفر دقت منذ قليل معلنة دخول السنة الجديدة، ومع ذلك ما زال الناس يصلون أفواجا لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان الرجل. ينتبه السائق إلى فكرة الاقتراب من قصر المرادية من الجهة الجنوبية وسط المباني السكانية الفخمة ويركن السيارة غير بعيد عن فيللا الأمين العام السابق لجبهة التحرير، هذا الرجل الذي انتشله يوما ما بومدين من حياته البسيطة بمدينة آفلو الصحراوية، وأتى به إلى قصر الرئاسة، لا لشيء إلا لأنه أبهره بلغته العربية السليمة، وكان وقتها الرئيس مقبلا على مشروع التعريب، فكان في حاجة لكل من يفقه حرفا في هذه اللغة التي منع الجزائريون لقرن ونيف من تعلمها. ينزل الرئيس تحت أضواء المصابيح الباهت، يسير خطوات ذهابا وإيابا، مثل الأسير في زنزانته وهو مستغرق في التفكير، يرفع رأسه إلى السماء، كانت ليلة صافية مقمرة، لكن سحب التلوث وضوء المصابيح يمنعان من مشاهدة النجوم، يحاول استنشاق الهواء لعله يجد شيئا من أريج أزهار قصر الرئاسة، وسرعان ما يصرخ في تقزز: ”ما هذه الرائحة الكريهة؟ ما كل هذا التلوث الذي يعم المكان، هل تحول محيط قصر الرئاسة إلى مزابل، أم الرائحة منبعثة من داخل القصر؟!”. لا يرد السائق على سؤاله هذه المرة، فهو لا يعرف ما بداخل القصر، لم يدخله في حياته، وقد صار الأمر مستحيلا منذ مرض الرئيس الحالي. لكنه لن يشرح الأمر للرجل العائد، لأن الشرح سيطول، فهناك الكثير من المحرمات التي لا يجب أن يكلمه فيها، خوفا أن يقطع الرئيس مهمته التي جاء من أجلها، ويفضل العودة من حيث أتى على أن يرى ويسمع أن كل ما بناه قد تهدم في السنوات الأولى لرحيله، ومن أين سيبدأ الحكاية، حكاية كل المآسي التي مرت بها البلاد؟! يسترق السمع، وكأن صوت طلقات نارية غير بعيد عن المكان، يسأل السائق ”ألم تقل لي إن العاصمة تعيش منذ سنوات في أمن وسلام بفضل الرجال الواقفين؟! فمن أين أتى هذا الوابل من الرصاص؟ ”لا! سيدي الرئيس إنها ألعاب نارية، بمناسبة حلول السنة الجديدة.. هوّن عليك!”. لكن الجواب لم يطمئنه، بل يفتح أمامه باب الحيرة واسعا ”ألعاب نارية وتبديد للأموال؟! ما هذا؟”. يصعد إلى المقعد الخلفي للسيارة، ولأول مرة ينتبه للأسوار العالية حول المساكن المتراصة خلف قصر الرئاسة؟ يسأل من جديد ”أين أزهار البوڤانفيلي الجميلة؟ أين عناقيد الورود التي كانت تتدلى على مداخل البيوت، ماذا حل بالعاصمة؟ لم كل هذا الإسمنت المقرف؟”. الشرح سيطول، يرد السائق، الجزائر اليوم ليست الجزائر التي عرفتها، بين البوڤانفيلي والحفاظ على أرواحهم، اختار الجزائريون، البقاء على قيد الحياة أثناء الأزمة الأمنية، فبعد أن تخلصوا من غول الإرهاب، هم اليوم تحت رحمة عصابات اللصوص التي تنشط جهارا نهارا، نعم سيدي الرئيس، قلت لك إن الحياة في الجزائر صارت مغامرة، نعم مغامرة بكل معاني الكلمة! يخلد السائق إلى النوم، قبل أن يتجه قبيل طلوع الفجر إلى بلاد القبائل، إلى عين الحمام لحضور مراسم دفن الفقيد. أما الرئيس فيأخذ حزمة من الجرائد كانت على المقعد الخلفي ليتصفحها تحت مصباح للسيارة، وينتبه للكم الهائل للصحف المتشابهة في الشكل والعناوين، عشرات العناوين بالعربية، ومثلها بالفرنسية، ”هه!”، ويعلق الرئيس مستهزئا ”ويقول لي إن البلاد تعرف تعددية إعلامية، وصحافة مستقلة وحرية تعبير، وكأن كل هذه الحزمة من العناوين تصدر تحت إشراف رئيس تحرير واحد”. لكن ما أثار انتباهه ليس فقط الهالة والمديح الذي كالته الصحف للفقيد آيت أحمد، وكأنه وحده من فجر الثورة، ووحده من حارب الاستعمار، ووحده الذي خطط ودبر وقاد المفاوضات؟ أم أن الميت ”رجليه طوال” يقول المثل الشعبي، صحيح أنه دخل النضال مبكرا وناضل وسجن ودفع شبابه من أجل استقلال الجزائر واستعادة هيبتها، لكن ليس وحده! كان هناك عبان ويستدرك - لعبان وضع آخر - وكان هناك بن مهيدي وعميروش وديدوش وبن بولعيد وبيطاط وكريم، كلهم، كلهم أسود الجرجرة والأوراس؟ هل تناسوا تضحية بن مهيدي، وتدمع عيناه وهو يتذكر بن مهيدي، مثلما كان في الحياة، بالنسبة إليه كلهم شهداء أسماؤهم محفورة في القلوب، لكن بن مهيدي فاقهم جميعا، ألم يقل بيجار لو كان عندي ثلة من بن مهيدي لملكت العالم؟! وأخبار الفساد، محاكمة سوناطراك، عجوز تموت أمام المستشفى من البرد، ما هذا؟! وها هو المؤذن يرفع آذان الفجر، فيقترب من السائق الغارق في نومه ليوقظه بهدوء. وها هما على الطريق إلى آث أحمد لوداع أحد رفاق السلاح إلى مثواه الأخير! - يتبع -