يشارك الفيلم الجزائري ”وقائع قريتي” للمخرج كريم طرايدية في فعاليات مهرجان السعيدية السينمائي ”سينما بلا حدود” في دورته الثالثة، خلال الفترة الممتدة بين 23 و27 أوت المقبل بالسعيدية، بتنظيم من جمعية ”الأمل للتعايش والتنمية” في المغرب. فقد تم اختيار أفلام من المغرب وبلدان أوربية وعربية سيجري عرضها في فضاء مفتوح لجمهور السعيدية، مع تنظيم لقاءات مفتوحة للتعريف بالمخرجين المغاربة والأجانب المشاركين في هذه الدورة التي تنظم تحت شعار ”جميعا من أجل الإبداع المغربي”. ويشارك في المسابقة الفنية لهذه التظاهرة السينمائية، التي تحمل اسم الناقد السينمائي نور الدين قشطي، 12 فيلما (6 أفلام طويلة منها الفيلم الجزائري ”وقائع قريتي” لكريم طرايدية، و6 أفلام قصيرة) تتبارى على الظفر بجوائز تقديرية لأحسن إخراج وأفضل سيناريو وأفضل ممثل وممثلة، بالإضافة إلى الجائزة الكبرى ”الجوهرة الزرقاء” للفيلم الطويل وجائزة ”البرتقال” للفيلم القصير. ويرأس لجنة تحكيم هذه الدورة المخرج المغربي محمد اسماعيل. ”وقائع قريتي” للمخرج الجزائري كريم طرايدية الذي يقيم ويعمل في هولندا، في نطاق السينما الهولندية، هو الفيلم الروائي الطويل الخامس لمخرجه إلى جانب فيلمين للتلفزيون وفيلم قصير ومسلسلين للتلفزيون الهولندي. درس طرايدية علم الاجتماع في باريس، ثم انتقل إلى هولندا عام 1979، حيث التحق بأكاديمية الفنون ودرس السينما، إضافة إلى الإخراج فطرايدية أيضا ممثل شارك بالتمثيل في خمسة أعمال تلفزيونية. وبعد أن أخرج فيلما قصيرا هو ”احتضار” (1993) أخرج فيلمه الروائي الطويل الأول ”العروس البولندية” (1998) الذي رشح لجوائز الكرة الذهبية ”غولدن غلوب”، وفيه يروي قصة تدور حول فتاة بولندية نجحت في التسلل إلى هولندا كلاجئة، لكنها وجدت نفسها مطاردة من قبل عصبة من القوادين الذين يعملون في تجارة الرقيق الأبيض يريدون إرغامها على العمل في الدعارة، لكنها تهرب إلى قرية في الريف، حيث تلتقي بمزارع هولندي قليل الكلام، متحفظ، وهناك تنمو بينهما بالتدريج علاقة عاطفية. وفي فيلمه التالي ”الناطقون بالحقيقة” (2000) عاد طرايدية مجددا ليلمس موضوع اللجوء والهجرة إلى الغرب من خلال شخصية صحافي جزائري (يقوم بدوره الممثل سيد علي أڤومي)، سببت له آراؤه السياسية التي تنتقد السلطة القمعية في الجزائر الكثير من المتاعب وجعلته مستهدفا من أجهزة الأمن، فانتهز فرصة وجوده في هولندا وطلب اللجوء السياسي، ولكنه لن يستطيع أن يهرب من مصيره. أما ”وقائع قريتي” فيتضح من البداية أنه ينتمي إلى سينما ”السيرة الذاتية”، وفيه يستمد طرايدية الكثير من ذكرياته الخاصة، من طفولته في زمن الاستعمار الفرنسي للجزائر، ويروي عن أسرته، عن أمه ووالده وجدته العجوز، عن زملائه في المدرسة وكيف كانوا ينظرون إليه ويتعاملون معه كونه كان يختلف كثيرا عنهم، عن علاقة الصداقة التي نشأت بينه وبين ضابط شاب في الجيش الفرنسي، كان يبدي شعورا إنسانيا نحوه بالحب والفهم والحنان الذي ربما كان يمثل له في البداية تعويضا نفسيا عن غياب الأب، أما الأب فكان قد ذهب إلى الجبال، حيث التحق بصفوف جيش التحرير الجزائري. يستعيد طرايدية الكثير من الأحداث والمواقف والوقائع، ينسجها معا، ليس في سياق درامي تقليدي ينشد الحبكة ثم بلوغ الذروة، بل من خلال سرد أفقي، تتجاور فيه الأحداث، وتتباين الشخصيات، وتتقاطع مصائرها، كلها تنبع من وعي البطل الصغير ”بشير”، المعادل السينمائي لكريم طرايدية نفسه. إنه يتذكر سنين الفاقة والفقر والحاجة التي كانت تعانيها أسرته.. كيف كان خاله يرقد مريضا، وكيف كانت أمه تجهد نفسها في رعايته مع إخوته الأربعة ومنهم اثنان مصابان بشلل الأطفال، وكان هو من ناحيته يشفق عليها ويساعدها بأن يجلب لها الملابس المتسخة من صديقه الفرنسي (وزملائه أيضا فيما بعد)، لكي تغسلها وتكويها مع الجدة التي كانت تستنكف كثيرا تردده على المعسكر الفرنسي القريب، لكنها كانت ترحب في الوقت نفسه، بما يأتيها به من مال. يتذكر طرايدية (أو بشير) أنه كان يطرح تساؤلات جريئة في طفولته، عن الله، ويتلقى الكثير من العقاب والتوبيخ بسبب تجرئه على خدش الموروث حسب ما يرى المحيطون به، وكيف كان خاله العليل هو الأكثر تفهما له وقربا منه. الجزائر في فيلم ”وقائع قريتي”، هي جزائر مضطربة، صورتها مشوشة، تختلط فيها الأشياء، ليس من الممكن التفرقة بين الأبيض من الأسود، والشخصيات لا تتمحور بين الخير والشر، القسوة والرقة، بل هي مزيج من الاثنين. والأهم أن الفيلم يصور، ربما للمرة الأولى، الأب-المناضل في صفوف جيش التحرير، ليس في صورة إيجابية كما هو معتاد، بل في صورة تشي في البداية على الأقل، بالسلبية، فهو يتخلى عن أسرته الفقيرة، ويغيب وينقطع عنها، لا يقدم لها شيئا، مما يجعل بشير يتمنى لو استشهد والده في إحدى العمليات العسكرية، فقط لكي يمكنه أن يفخر بأنه قد أصبح ”ابن الشهيد” أو ”ابن المجاهد”. وعندما يعود الأب في زيارة للأسرة، يبدو سلبيا، غير متعاطف كثيرا مع زوجته، بل إنه يتسبب أيضا في كارثة بعد أن يكتشف الفرنسيون وجوده في منزل الأسرة، ويقبضون عليه، لكنه يفلت من مصيره المحتم بعد أن يتدخل جاره ”الحركي” المتعاون مع الفرنسيين، فيوظفه الفرنسيون في العمل بمطبخ المعسكر الفرنسي، ما يصيب بشير الصغير بالإحباط. يتميز الفيلم بإيقاعه الهادئ المنساب، وموسيقاه الناعمة التي تعكس أجواء استدعاء الماضي، والكاميرا التي تتحرك في نعومة، تتابع من وجهة نظر بشير في معظم الأحيان، لا يخلو الفيلم من المبالغات الكاريكاتورية كما في مشهد تساؤل بشير عن الله وتكرار السؤال مرات عديدة، وفي كل مرة يكون رد فعل الشخص المستمع إليه داخل العائلة متطابقا، وقد تكرر الموقف بطريقة جعلت الفكرة تبدو مثل ”نكتة” متكررة مما أفقد المشهد حرارته وصدقه. تفقد المبالغة مشهدا آخر نرى فيه بشير يتضور جوعا ويتطلع إلى الرجل الذي يقوم بإعداد الكباب المشوي بنهم، فيدعوه خاله المفلس لتناول الكباب على الرائحة فقط، فهو يناوله قطعة من الخبز، ويريه كيف يعرضها لرائحة الشواء إلى أن تتشبع ثم يغمض عينيه ويتناولها ليشعر بطعم الكباب دون كباب! ينهي طرايدية فيلمه بمشهد كاريكاتوري ساخر، عندما يجعل حشدا من الناس الذين يتجمعون بعد رحيل الفرنسيين ودخول قوات جيش التحرير إلى القرية يهتفون أولا للزعيم أحمد بن بلّة، لكن قائد القوة يوقفهم ويقول لهم إنه ليس معروفا بعد من الذي سيتولى القيادة، فيعود المحتشدون ليهتفوا بحياة هواري بومدين.. فيوقفهم الضابط مجددا قائلا إن هذا أيضا ليس معروفا، فيهتفون بحياة جبهة التحرير، فيوقفهم مرة أخرى ليقول إننا لا نعرف ماذا سيكون اتجاهنا. وأخيرا يطلب منهم أن يهتفوا بحياة الجزائر فيرددون الهتافات.