فمن منا كان يتوقع أن تطرد الأم أو الأب من بيتهما الذي بنياه حجرا على حجر؟ ومن هو ذلك الابن العاق الجريء الذي يقدم على مثل هذا الفعل المشين؟ فلا أحد كان ينتظر أن يتحول مجتمعنا إلى منبر كبير للتجارب حتى على حساب أقرب المقربين• شباب هذا العصر استباحوا لأنفسهم كل شيء لم يعودوا يكترثون إذا ما رمي الأم أو الأب إلى الشارع أو دار العجزة، وهي إحدى المعاصي التي يعاقب عليها في الدنيا قبل الآخرة• فمدينة فالمة بالرغم من صغر مساحتها والعادات والتقاليد التي تعرفها المنطقة إلا أن المتجول بشوارعها لاشك أنه سيصادف عجوزا مرميا على الأرض يمد يده لافتكاك دنانير تؤمن له وجبة تلك اللحظة• هؤلاء العجزة في كل مكان، لكن كل واحد منهم له حكاية كيف كان يعيش عيشة هنية في وسط أسرته قبل أن تخونه الدنيا ويرمى إلى الشارع في آخر عمره• ولخطورة هذه الظاهرة ارتأينا أن نعرف حكاية بعض هؤلاء من المسنين الذين لم يجدوا حرجا في محادثتنا بل وكأنهم وجدوا فرصة للتنفيس عن ضيقهم• توفي زوجي فطرني أبناؤه من المنزل خالتي مسعودة هي عجوز تقارب 80 من العمر، التقينا بها جالسة أمام المقبرة العمومية• من ملامح وجهها الشاحب تستشف حزنها العميق وآلامها مع الحياة التي غررت بها في أواخر عمرها• قالت لنا خالتي مسعودة بعفوية وببراءة الطفولة "لم أظن في يوم من الأيام أن أكون ضحية من ضحايا أبناء زوجي الذين قضيت نصف عمري في تربيتهم كأبناء لي"• تصمت خالتي مسعودة ثم تتابع بلهجة تبعث على الحزن• تزوجت أبوهم بعدما توفيت أمهم وتركت ثلاثة أطفال، الأكبر فيهم لايتجاوز ال15سنة فشقيت على تربيتهم أحسن تربية حتى كبروا وتزوجوا وأصبح لكل منهم بيت يعيش فيه مع أسرته، وبقيت أنا وزوجي نعيش بمفردنا إلى أن جاء اليوم المشؤوم وتوفي زوجي ليتركني وحيدة في هذه الدنيا، حيث لم تمر إلا شهور معدودة على وفاته حتى أراد الأولاد أن يبيعوا البيت، فرجوتهم أن يتريثوا حتى ألحق بأبيهم ثم يفعلوا ما يحلو لهم، لكن الابن الأكبر رفض ذلك فباعوه فوق رأسي ولم يتركوا لي خيارا سوى الخروج منه، فتوجهت عند أختي ومكثت عندها شهورا ولأن زوجها أصبح لا يطيقني تركتها لأتوجه إلى ربيبتي التي رحبت بي واستقبلتني أحسن استقبال وطلبت مني البقاء عندها، إلا أنني أحسست أن هناك مشاكل وقعت بينها وبين زوجها بسببي فخرجت من عندها لأفترش الشارع، لكن هذه البنت ثمرت فيها التربية لم تتركني بل سألت عني حتى وجدتني وسلمت لي ثيابا ونقودا حتى أتمكن من العيش وهي الآن تبحث لي عن بيت للكراء بعد أن قضيت ما يقارب 04 أشهر في العراء• رماني ابني لإرضاء زوجته عمي صالح يبلغ من العمر حوالي 70 سنة هو الآخر ضحية من ضحايا الرفض العائلي، تحدث إلينا والدموع لم تفارق عينيه وسرد لنا كيف أهانته الدنيا ليجد نفسه في آخر أيامه على قارعة الطريق، وقال "زوجة ابني هي السبب"• ثم استطرد قائلا "لماذا أعتبها هي ليست ابنتي فمن أعاتب وألوم هو ابني وكل أبنائي"• يواصل عمي صالح أو المدير كما يحلو لأصحابه مناداته "تزوج كل أبنائي عدا الصغير• وكل واحد استقل بحياته ولم يبق في البيت إلا الابن الصغير ففكرت وزوجتي - رحمها الله - أن نأتي له بعروس فاقترحنا عليه الزواج من بعض القريبات لكنه رفض، تفهمنا موقفه ورأيه وقبلنا من اختارها وليتني ما قبلتها• لم تكن بنت أصل ما أن وطأت البيت العائلي حتى أصبح لا يهدأ من خصوماتها اليومية باختلاقها المشاكل والسعي لتسبب الخصام بيننا وبين ابني، وكانت تفلح إلى أن ماتت زوجتي واعتقدت أن ابني الذي حزن على أمه حزنا عميقا سيكون أكثر تمسكا بي، غير أن اعتقادي لم يكن في محله فقد بات الزوج المطيع ما من شيء إلا وقدمه لها ولو كلفه حياته، والدليل أنه رماني إلى الشارع لأنها سئمت من وجودي في البيت"• ويذكر عمي صالح "لم يكن محرجا ولا خجلا ذلك اليوم الأسود في حياتي، قال لي إن زوجتي حامل وليست مجبرة أن تتحمل مشاكلك لذا أفضل أن تذهب عند إخوتي ريثما تلد ثم عد إلى الدار"• يواصل الشيخ "عملت بقوله وذهبت عند أبنائي فوقعت معهم في نفس المشاكل، فما كان أمامي إلا الشارع ولا أحد من أبنائي سأل عني" واختتم الشيخ كلامه بحسبي الله ونعم الوكيل• رأي الطب النفسي والدين في هذه الظاهرة ولمعرفة رأي الطب النفسي في هذه الظاهرة أجابنا الدكتور مراد بوشمال أخصائي نفساني أن استفحال ظاهرة الرفض العائلي يعود لعدة أسباب ومن أهمها ما هو مرتبط بالفقر والعوز، بحيث أن هذه العائلات الفقيرة تجد نفسها مجبرة على رفض هذا المسن الذي لم يعد بمقدوره المساهمة في دفع الفقر عنهم بل أصبح عبئا ثقيلا فترى وضعه في دار العجزة أفضل وسيلة لذلك• فيما نجد حب الاستقلالية من طرف الأزواج هو كذلك دافع قوي في مثل هذه الحالات التي ما فتئت تدمر مجتمعنا وتسلخه من جلده المسلم مقلدة الغرب في ذلك، وهي أمور لا تخدم بتاتا هذا المجتمع• أما من الناحية الدينية فإن الأستاذ فؤاد معيزي إمام مسجد الإيمان فيرى أنه لا شك أن بر الوالدين من أجلّ الأعمال وأعظم القربان بعد توحيد الله تعالى، حيث ربط ذكرهما بذكره ولما أمر بعبادته أمر بالإحسان إليهما، وهو القائل جل وعلى (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا)، أما ما نراه اليوم من واقع الناس فهو أمر بعيد عن دين الله تعالى وأخلاق شعبنا الأصيل، أيعقل أن يجوع الوالدان وولدهما موجود أو يعاملان بغير أدب واحترام• بل وقد وصل الأمر بالبعض إلى أن يحمل أباه أو أمه عند الكبر أو المرض ويتركها في دار العجزة في مأوى من انقطعت به السبل، وقد تمر عليه الأيام والشهور والأعوام ولا يعلم عنهما شيئا• فأين الإحسان والمروءة، بل أين الرحمة والإنسانية فقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رغم أنفه•• رغم أنفه"، قالوا "من يا رسول الله"؟ قال "من أدرك والديه عند الكبر أو أحدهما فدخل النار"••