الغريب في الجزائر، والذي لا يحدث إلا في الجزائر، هو أن تغيير رئيس الحكومة لا يسلتزم تعديل الحكومة وأقل من ذلك تغييرها. وقد رأينا أنه من الممكن أن يرأس بلخادم تركيبة حكومية تم اختيارها في عهد أويحي ويمكن أن يرأس أويحي تركيبة تم تشكيلها في عهد سلفه. إن الأمر قد يدفع للاعتقاد أن"المشكلة!" هي في رئيس الحكومة فقط وأن الطاقم الحكومي ناجح وأن عائقه أو جانب التقصير فيه هو رئيس الحكومة غير القادر. وبهذا المنطق السطحي ينبغي أن نتساءل ولكن لماذا عاد أويحي وقد "حُكِم" سابقا عليه أنه معيق لتطبيق برنامج الرئيس؟ المسألة أكثر تعقيدا بكل تأكيد، وليست متصلة بأي تقييم لعمل الحكومة أولأداء رئيسها، بل قد تتصل حينا بعلاقة رئيس الحكومة برئيس الجمهورية وقد تتصل حينا آخر، مثلما تصر الكثير من التأويلات، بالتدافع القائم بين أصحاب النفوذ والقرار. ينبغي أن يقودنا كل هذا لنرى حال البلاد المؤسساتي وآليات الإدارة وتسوية المسائل السياسية والاعتبارات التي تتحكم في انتقاء هذا المسؤول أو ذاك، هذا الوزير أو ذاك، هذا الرئيس أو ذاك. وبخلاصة سريعة يمكن أن نستنتج أن الأمر غير متصل بتدافع مؤسساتي، فليس هناك ضغوط من مجلس تشريعي على رأس السلطة التنفيذية مثلا، إن التدافع داخل السلطة الواحدة. تبعا لذلك هناك، حسب الصورة المتعارف عليها لدى رجال الإعلام والمهتمين بالشأن العام، الرئيس و" أصحاب القرار" وإن التدافع قائم بين الطرفين. لكن هناك من يؤكد اليوم أننا نعيش فترة " توحيد لمركز القرار" وأن الرئيس أو الرئاسة هي المكان الذي تطبخ فيه الحكومة وأن لعبة التوازنات تدار في هذا المركز وأن الرئيس هو الجهة الوحيدة أو الأساسية (!!) التي تتولى عملية انتقاء أعضاء الحكومة. الواقع أن قرار تكليف أحمد أويحي مرة أخرى برئاسة الحكومة ينم عن أن هذا التوحيد لم يتم أو أن هناك مراكز نفوذ هي من القوة والنفوذ بحيث تسطيع أن تجعل عودة أويحي ممكنة بل وعادية وغير غريبة !! ومهما يكن من أمر سواء أخذنا بالفرضية الأولى أو الثانية فإن السؤال الذي يظل مطروحا هو: ما هي التوازنات التي ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في اختيار رئيس حكومة أو في تشكيل حكومة؟ هل هي توزانات سياسية؟ هل هي توازنات جغرافية؟ هل هي توازنات مصلحية؟ أم هي هذه كلها؟ يمكن القول بالنظر لتركيبة الحكومات السابقة أن عامل التوازن الجغرافي لم يعد عاملا هاما وأقل من ذلك عاملا محترما. أما بخصوص احتمال وجود اعتبارات سياسية، غير سياسوية، فيمكن القول أن الحديث عن توازنات سياسية يفترض وجود مدارس سياسية حقيقية ويفترض وجود قوى سياسية حقيقية ذات قاعدة سوسيولوجية تدافع عن مصالحها بأدوات سياسية وتتولى صياغة برنامج مجتمع أو على الأقل استراتيجية لحماية مصالح هذه الفئة أو الطبقة أو تلك. لكن الوضع لم يبلغ هذا المستوى من النضج. ومن الترف التوقف طويلا عنده. لهذا نعود لما سبق الحديث عنه وهي التسويات بين مجموعات ذات نفوذ سلطوي توظف النفوذ السياسي والنفوذ المالي والعامل الجغرافي وتضع التوليفة وفق خلطة لا تعرف إلا هي أسرارها !! وينبغي القول هنا إن الأهم في كل هذا ليس نتيجة التسوية، أي من هو رئيس الحكومة وممن تتشكل التركيبة الحكومية، بل المهم أساسا هو شكل الإدارة السياسية وطبيعتها. وهذا الشكل من الإدارة ثبت أنه لا يسمح لأي فعل سياسي ولأي برنامج أو أي فريق مهما بلغ من كفاءة أن ينتج واقعا مغايرا. والتجارب السابقة أمامنا. الحكومات السابقة لم تخضع لتقييم من المؤسسة البرلمانية مثلا، وأن العامل الأساسي الذي يتحكم ليس نتيجة التقييم بل اعتبارات أخرى سياسوية. وهذا يعني في ما يعنيه عدم وجود مفهوم المسوؤلية ولا وجود لمفهوم الرقابة. أما بخصوص المسؤولية فإن الكثير من الوزراء السابقين يتحدثون، بشكل غير علني طبعا، عن أن جهات ذات نفوذ تتدخل بهذا الشكل أو غيره لتوجيه القرارات وبالتالي فليس من المنطقي تحمليهم مسؤولية النتائج الهزيلة. أما بخصوص الرقابة فإن البرلمان هو المفترض أن يتولى الرقابة على عمل السلطة التنفيذية ولكن الواقع يقول لنا إن السلطة التنفيذية ما زالت هي السلطة الوحيدة التي يمكن وصفها بالسلطة، حتى وإن تدهورت هي الأخرى في ممارستها وفي هيبتها، خاصة مع الفساد الذي ينخر مؤسسات البلاد وما تتعرض له ثروة البلاد من نهب وتبذير. وحول هذا الأمر صارت حتى أطراف في السلطة تعبر عن "انزعاجها من الفساد والتبدير". إذن لا وجود في وضع كهذا لا للمسؤولية وللرقابة ولا للتقييم، وبالتالي فالمسألة في تغيير رئيس حكومة غير متصلة بتقييم النتائج بل بمعطيات ظرفية متصلة بتوازانات داخلية للسلطة وأطرافها. إن عودة أويحي لرئاسة الحكومة يمكن أن تقرأ على أنها عطل مؤسساتي وعلى أنها تمثل " الستاتيكو" و" اللاحل". عاد أويحي!!. بغض النظر عن أي موقف من أحمد أويحي نفسه، لماذا هناك في السلطة من يصر على أن هذا الرجل هو الأصلح في هذا الظرف كما في ظروف سابقة لقيادة العمل الحكومي وتنسيقه؟ هل هناك معايير ما مطبقة وهي تتوفر في هذا الرجل ولا تتوفر في غيره؟ هل يمثل قوة سياسية لها من التمثيل الاجتماعي أو التمثيل المصلحي ما يجعله ضرورة حيوية لتوازن سياسي؟ من يمثل أويحي، إن اجتماعيا أو مصلحيا؟ هل يمثل الأثرياء الجدد أم يمثل صغار المستثمرين وكبار التجار أم يمثل سلطة البيروقراطية وامتداداتها؟ هل يتم اختيار رؤساء الحكومات على أساس تمثيلي سياسي أم على أساس جغرافي أم على أساس توازن مجموعات النفوذ فقط؟ يذكرني كل هذا بما رواه لي سعد بوعقبة عن السؤال المحرج الذي طرحه عليه الأستاذ حسنين هيكل أثناء مرافقته له في إحدى زياراته للجزائر من سنوات طويلة خلت: "إزّاي أصير وزير في الجزائر؟!". إن المسألة متصلة بالتمثيل، حتى بغض النظر عن الشرعية السياسية، ومتصلة بمحاولة تبين إن كان هناك تحولات في هذا التمثيل وهل استحوذت طبقة على السلطة أم أننا ما زلنا في ما يسميه Bruno Etienne الأمة الطبقة. وفي هذا السياق وإذا قلنا أن البلاد ما زالت لا تملك طبقة رأسمالية لكنها اليوم تملك طبقة من الأثرياء يقودهم في أحيان كثيرة من يجمعون بين الثروة والسلطة والنفوذ. فما هو مستوى تمثيل هذه الطبقة في دواليب السلطة والدولة؟ هل أويحي يمثل هذه الطبقة؟ الثابت مثلا عند هذا الرجل أنه كلما تولى الحكومة أعلن عن سن ضرائب جديدة أو رسوم جديدة. لماذا؟ هل يؤكد ذلك بشكل ما الفرضية التي ذهبنا إليها أم أن الرجل، وكما سبق أن وصف نفسه هو، رجل"المهمات القذرة" وفقط!!. يمكن أن نمضي في طرح تساؤلات منطقية كثيرة. ما علاقة أويحي بالناس، وما علاقة الوزراء بالناس. وأفضل استخدام تعبير الناس على أي تعبير آخر يحمل أي نكهة إيديولوجية، وذلك لسبب أساسي هو أننا لا نعيش أي نضج معرفي ولا توجد مدارس سياسية حقيقية وأقل من ذلك مدارس إيديولوجية. ولهذا يمكن أن نوضح بالتساؤل، ماذا يمثل أويحي معرفيا، هل يرمز لرؤية سياسية إيديولوجية ما، هل يرمز لنسيح سياسي اجتماعي فعال وفاعل ومنظم؟ طبعا مثل هذه التساؤلات في حد ذاتها هي نوع من الترف الإعلامي الذي لا يمكن أن نطيل التوقف عنده. فأويحي " مُنح" حزبا أو كلف ب "إدارة جهاز تبرير انتخابي" وهو ليس من رجال السياسة لأننا لا نعرف له أي تجربة سياسية سابقة لتوليه منصبا سياسيا في أعلى قمة البيروقراطية السياسية، أي مدير ديوان الرئيس، وهو قادم من البيروقراطية الدبلوماسية. على كل ما هو أكيد أن أويحي لم يُعرف أنه كان"مناضلا سياسيا" في أي تشكيلة سياسية، ولم يسبق له أن خاض انتخابات حقيقية ولم يسبق أن تدرب على تمثيل أي قوة سياسية أو مدنية. إنه نتاج البيروقراطية وليس العمل السياسي. وهذا حال الكثير من الوزراء بل والكثير من رؤساء الأحزاب أيضا. ما زالت البيروقراطية هي التي تمنح العدد الأكبر من الوزراء ومن رؤساء الأحزاب أيضا!! ومقارنة سريعة بين رؤساء الحكومات حتى منتصف التسعينيات، أي من عبد الحميد ابراهيمي إلى رضا مالك، مرورا بمرباح وحمروش وبلعيد عبد السلام ورضا مالك، وبين من أتى بعدهم يمكن أن نرى أن المجموعة الأولى تتكون من سياسيين عسكريين أو عسكريين سياسيين في الغالب، وهم نتاج ما أسميه " نظام جبهة التحرير"، وأن المجموعة الثانية من مقداد سيفي إلى أحمد أويحي مرورا بأحمد بن بيتور وعلي بن فليس وبلخادم تتكون في الغالب من مخرجات البيروقراطية (بشقيها السياسي والإداري) والتقنوقراطية. وهذه المجموعة الأخيرة أسماء أشخاصها لا توحي للملاحظ بأي طعم سياسي خاص، عكس شخصيات المجموعة الأولى التي نرى أن كل اسم فيها يرمز لبرنامج أو توجه أو يعطي على الأقل نكهة سياسية. وهنا أيضا المشكلة الأهم.. هي لماذا وكيف تعمد السلطة للاعتماد على كل هذا الكم من هذه الشخصيات على ما تمثله من تباعد في القناعات والرؤى السياسية؟ يبدو أنها حلت المشكلة نهائيا بالاعتماد على"مكلفين بهمة" يطبقون برنامج الرئيس أو يتولون تنفيد قرارات وسياسات لا يضعونها، وبالتالي لا يتحملون مسؤولية فشلها. وهنا واضح أن الرئيس الفعلي للسلطة التنفيذية هو رئيس الجمهورية وليس غيره، ومنصب رئيس الحكومة لا يمارس حتى حسب منطق الدستور، بل إننا نتذكر تصريحا لبلخادم بعد تعيينه يقول أنه منسق لعمل الحكومة، وهو في ذلك خالف منطق الدستور لإرضاء الرئيس!! في كل الأحوال واضح أن رئيس الحكومة لا يمثل أغلبية برلمانية منتخبة. فحتى لو أخذنا بواقع الأمر داخل البرلمان بغرفتيه فإن جهاز أويحي السياسي لا يملك أغلبية. حتى لو أخذنا بواقع الأمر السياسي وقلنا أنه يمثل تحالفا يملك أغلبية فنحن لم نر هذا التحالف يصدر بيانا، ولو بصفة شكلية، للتناوب على رئاسة الحكومة. ولعل الأهم، والذي لا يتم التوقف عنده كثيرا، هو أن المناصب الهامة في الحكومة ليست من نصيب أي طرف من أطراف التحالف الجهازاتي. والحديث عن تقاسم المناصب في الحكومة بين ممثلي أجهزة ثلاث تشكيلات هو شيء ينبغي أن نأخذه بالكثير من النسبية. فوزارت الداخلية والخارجية والمالية والطاقة والعدل بالخصوص لا علاقة لها بالتحالف الثلاثي. إنها تمثل من نسميهم إعلاميا "رجال الرئيس"، وحتى هذه التسمية قد يتجادل حول صحتها الكثيرون. المسألة الأخرى الغريبة هو هذا الاستقرار الإرادي للطاقم الحكومي، بل إن بعض الوجوه صارت تمثل ظاهرة. فإذا كنا رأينا أويحي عاد ثلاث مرات لمنصبه فإن ظاهرة بن بوزيد يشيب لها الولدان، إنه"الثابت" الأساسي في الدولة وليس في الحكومة فقط. ولم يتمكن الرؤساء المتعاقبون أن يجدوا وزيرا أفضل لوزارة التربية من هذا الإسم !!! إن المتعارف عليه في تشكيل الحكومات في كل الدول، حتى البعيدة كل البعد عن الديمقراطية والتداول السياسي على السلطة، هو البحث دائما عن فريق منسجم يتولى تنفيذ برنامج ويتولى تجسيد سياسة أو سياسات. لكن في الحالة الجزائرية الأمر غير متصل بالبحث عن أي انسجام لأنه ليس هناك برنامج، بل هي التوازنات السلطوية القديمة المتكررة. وأن ما يوحد الطاقم الحكومي هو"المهمة" التي كلف بها كل عضو فيه من قبل من كلّفه، رئيسا كان أو صاحب نفوذ، وليس لا البرنامج ولا شخص رئيس الحكومة !!