الصراع على تمثيل الإسلام في فرنسا قضية قديمة، لكنه ظهر بوضوح للعلن عندما طعن مسجد باريس الكبير في مصداقية انتخابات تجديد مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا التي نظمت صيف العام الماضي في غياب المؤسسة الدينية العتيقة المقربة من الجزائر بعد أن تبنت خيار المقاطعة وجرت الانتخابات بمشاركة ما يقرب من 4800 مندوب يمثلون أكثر من 1000 مسجد وقاعة صلاة. قال حينها عبد الله زكري، المسؤول الجهوي لفيدرالية مسجد باريس في جنوبفرنسا، أن تجاوزات قانونية كبيرة سجلت على مستوى مكاتب التصويت، "من اجل جعل الكفة تميل لصالح المرشحين الموالين للحكومة المغربية"، كما أن كثيرا من المترشحين قدموا ملفاتهم بعد انتهاء الآجال القانونية لذلك، وجرى الحديث عن كثير من الضغوط والتدخلات التي قامت بها بعض القنصليات والسفارات المغربية والتركية للتأثير في نتائج الانتخابات...وترأس عميد مسجد باريس، دليل أبو بكر، المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية منذ سنة 2003 وكان تعيينه في الانتخابات السابقة بمثابة اختيار توافقي بالنظر إلى أنه كان محل رضى من قبل السلطات الرسمية الفرنسية، باعتباره يمثل "الإسلام المعتدل.ويرى دليل بوبكر أن نظام الانتخاب الجديد جعل الشبكة الوطنية للمسجد الكبير التي تضم 100 مسجد تنتهي بها الأمور في موقع متأخر عن شبكات أخرى تبني مساجد جديدة كثيرة "بتمويل ودعم من الرباط". و أغلب المسؤولين في فيدرالية مسجد باريس أبدوا دعمهم لقرار المقاطعة الذي ظهر انه يحظى بشبه إجماع داخل الهيئات القيادية في الفيدرالية.ونظمت انتخابات المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية في 25 منطقة من المناطق التي تشكل فرنسا من أجل انتخاب قائمتين، الأولى محلية من أجل المجالس الجهوية (الإقليمية التابعة للمجلس)، والثانية قائمة وطنية رئيسية تمثل الأعضاء الذين أصبحوا ممثلين على مستوى فرنسا كلها.وكثفت الجزائر في الأشهر الأخيرة من تقديم الدعم المالي لبناء وتسيير عدة مساجد وجمعيات دينية في كبرى المدن الفرنسية، عبر القنوات الدينية والدبلوماسية، خطوة قرأها الكثيرون في سياق الصراع الجديد على تمثيل المسلمين في فرنسا. ويقول المسؤول الجهوي في جنوبفرنسا لفدرالية مسجد باريس،عبد الله زكري، أنه لا توجد أرقام رسمية معروفة عن حجم الدعم المالي الجديد الذي خصصته الجزائر لبناء وتسيير عدد من المساجد الكبرى في فرنسا، لكن الأرقام التي اطلع عليها شخصيا انطلاقا من موقعه الديني، تؤكد أن الجزائر تساهم بمبلغ 490 ألف أورو في بناء مسجد مدينة تور، وبنحو 270 ألف أورو لصالح مسجد تولوز، في حين يعتقد ان حجم مساهتمها في مسجد مارسيليا الكبير لن تقل عن مليون أورو ( 10 ملايير سنتيم) أي ما يماثل نفس مبلغ الدعم المالي السنوي الذي تحوله الجزائر بانتظام لتغطية نفقات تسيير مسجد باريس خاصة منها أجور الموظفين الإداريين ونحو 100 إمام صلوات وخطيب.ويضيف زكري، وهو أيضا ممثل مسجد باريس في مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا الذي أسسه ساركوزي عندما كان وزيرا للداخلية، أن الأرقام السالفة لا تشكل سوى جزءا قليلا من الدعم الرسمي الجزائري للنشاط الديني في فرنسا "الذي تضاعف عدة مرات خلال الأشهر القليلة الأخيرة".ويربط بين هذا "التحول" وبين اجتماع خاص عقده مطلع أكتوبر الماضي مسئولو فيدرالية مسجد باريس ضم أيضا السفير الجزائري في فرنسا ميسوم سبيح و وزير التضامن والجالية جمال ولد عباس، لبحث وضعية المؤسسة الدينية العريقة المدعومة من الجزائر، على ضوء النتائج التي أفرزتها الصيف الماضي سيطرة المحسوبين على المغرب على مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا. وقال زكري أن مسؤولي الفيدرالية قدموا لممثلي الحكومة الجزائرية "خطة عمل لإعادة الوزن والتأثير المفقودين لمسجد باريس في المؤسسات الإسلامية الرسمية في فرنسا"، و طالبوا لأجل ذلك زيادة الدعم المالي على شكل ميزانيات تسيير مستقلة لكل من الجهات الثمانية "للتحضير من الآن وبشكل مبكر لانتخابات تجديد مجلس الديانة الإسلامية المرتقبة بعد أقل من ثلاث سنوات". لكنه انتقد "التوظيف السيئ احيانا" لهذا الدعم وأعطى مثالا على ذلك أن المسلمين لا يملكون القطعة الأرضية التي سيتم بناء مسجد مرسيليا الكبير عليها، لأن رئيس بلدية مرسيليا لم يهبها ولم يبعها للجمعية المشرفة على المشروع بل فضل تأجيرها لمدة 99 سنة لها، وبعد ذلك تعود ملكية القطعة الأرضية للبلدية، ويعد هذا في نظر زكري خطأ كبيرا وقع فيه المشرفون على المشروع ومموليه أيضا.وتؤشر المعطيات الجديدة على "تحول نوعي" لدى الدبلوماسية الجزائرية في فرنسا في ترتيب المؤسسة والنشاط الدينيين ضمن أولوياتها، وكشف للتأكيد على ذلك على موافقة وزارة المالية الجزائرية على طلب تقدم به مسجد باريس للحكومة الجزائرية لكي يكتفي مستقبلا بتوظيف أئمة محليين مولودين ومقيمين في فرنسا لشغل المناصب الدينية الجديدة والتوقف عن اللجوء إلى أئمة منتدبين من الجزائر كما كان جار العمل به من قبل، ويرمي العميد دليل أبو بكر بذلك إلى "تقليص النفقات والتكيف من التحديات الأمنية الجديدة التي أصبحت الداخلية الفرنسية تفرضها في توظيف الأئمة وخطباء المساجد" يضيف زكري مشيرا إلى قرارات سابقة صدرت عن القضاء الفرنسي بترحيل عدة أئمة جزائريين بتهمة "الترويج لخطب وأفكار متطرفة.ويعتقد زكري ان دعم الحكومة الجزائرية للمؤسسة الدينية العريقة المحسوبة تقليديا عليها "لا مفر منه للوقوف بشكل متوازن" مقابل منافسه القوي، تجمع مسلمي فرنسا، الذي تأسس قبل أسابيع فقط من موعد الانتخابات "بتأطير ودعم مادي كبير من الحكومة المغربية" ومنحت الانتخابات الأخيرة تجمع مسلمي فرنسا، مطلع شهر جوان الماضي، سيطرة كاملة على مجلس الديانة الإسلامية، وخولته تلقائيا الحصول على منصب الرئيس فيه، ويضيف مسؤول فيدرالية مسجد باريس في جنوبفرنسا أن مسؤولي الفيدرالية يعتقدون أن الحكومة الجزائرية "ملزمة" بالتحرك الآن لاعادة الاعتبار لمسجد باريس لأن قرار مقاطعة الانتخابات الفارطة جاء بطلب من ممثليها الدبلوماسيين في فرنسا.وفي تلك الأثناء أبلغت وزارة الداخلية الفرنسية البعثة الدبلوماسية لدولة قطر في العاصمة باريس رفضها "القاطع" تنظيم حفل عشاء كان مقررا أن تحتضنه السفارة القطرية قبل أسابيع للإعلان رسميا عن إطلاق هيئة جديدة تمثل المسلمين في فرنسا، تتشكل أغلبية المبادرين بها من ذوي الأصول الجزائرية. ولتبرير رفضها إطلاق هذه المبادرة المشكلة من منتخبين ونشطاء في الحركة الجمعوية ومسؤولين دينيين في فيدرالية مسجد باريس، قالت وزارة وزارة الداخلية أنها تخاف أن تشكل الهيئة الجديدة "طعنة في الظهر" لمجلس الديانة الإسلامية في فرنسا الذي أعلن الجزائريون في وقت سابق عن قرار تجميد عضويتهم فيه.ورفضت وزيرة الداخلية الفرنسية، ميشال اليو ماري، المبادرة بحسب ما نقله مستشاروها لمسؤولي مسجدي باريس وليون الكبيرين، في اعقاب لقاءات جديدة جمعت الطرفين و حضرها أيضا مسؤولو مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا الذي يسيطر عليه المنحدرون من أصول مغربية، لأجل ثني مسئولي مسجدي باريس وليون، الجزائريين، عن قرار تجميد عضويتهم فيه. ودفع ذلك المسئولين الدينيين الجزائريين إلى التمسك بسياسة القبضة الحديدية، التي أصبحت تميز صراعهم مع وزارة الداخلية الفرنسية، وطالب هؤلاء في نقطة تحول جديدة، برحيل مستشار الوزيرة لملف الأديان، دافيد سينا، بعد تصريحاته خلال مشاركته في ملتقى نظم في فاس المغربية، يومي 14 و 15 مارس الماضيين، أشرف عليه مجلس الجالية المغربية المقيمة في الخارج، وصرح فيها المسؤول الفرنسي أن حكومة بلاده تعارض اقتراحا تقدمت به فيدرالية مسجد باريس لتعديل قواعد انتخابات مجلس الديانة الحالية بشكل يحفظ لكل جالية حضورها بحسب وزنها، على شاكلة هيئة مماثلة تمثل اليهود الفرنسيين وتدافع عن مصالحهم، وهو رفض جاء امتدادا لموقف قديم تبناه ساركوزي عندما كان وزيرا للداخلية عندما قال أن خلق هيئة شبيهة بتلك التي يريدها مسجد باريس يكرس الانتماءات والصراعات الجهوية بحسب البلد المغاربي الذي تنتمي إليه كل جهة، وبدا الصراع الجديد على تمثيل الإسلام في فرنسا وكأنه انعكاس مباشر لخريطة التحالفات على مستوى الدول العربية في قضايا خلافية أخرى منها القضية الفلسطينية، ففي حين يجد الجزائريين حليفا لهم في الطموحات الجديدة للدبلوماسية القطرية، يدعم السعوديون بشكل كامل المسئولين الدينيين من ذوي الأصول المغربية.وفي أعقاب ذلك فتح مسجد باريس النار على وزيرة الداخلية الفرنسية، ميشال اليو ماري، متهما أياها "بالتحيز الفاضح للسياسة المغربية وعرابيها في تسيير شؤون الديانة الإسلامية في فرنسا" بعد أن استدعت وزيرة الداخلية الفرنسية، ميشال اليو ماري، مسؤولي مسجدي باريس وليون الكبيرين، إلى "لقاء خاص" حضره أيضا مسؤولو مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا الذي يسيطر عليه المنحدرون من أصول مغربية، وقال مسؤول فيدرالية مسجد باريس، أنه جاء لأجل ثني مسئولي مسجدي باريس وليون، الجزائريين، عن قرار تجميد عضويتهم في مجلس الديانة الإسلامية، حيث أن فيدرالية مسجد باريس واجهت في الأشهر الأخيرة عدة عراقيل من وزيرة الداخلية حالت دون أدائها مهامها المعتادة، واتهمت صراحة "بالتواطؤ ودعم" عملية جارية لتحجيم دور مسجد باريس، وتقليص حضوره في تسيير شؤون الديانة الاسلامية في فرنسا، وأعاد مسؤولو مسجدي باريس تجديد اتهامهم لرئيس مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا بالتسبب في "انزلاقات شخصية في تسيير هذه الهيئة الدينية" ذكروا منها "تشجيع التدخل الأجنبي الذي يتعرض له المجلس واحتكاره لفائدة مصالح خاصة أفشلت التسيير التوافقي للتوزانات الضرورية فيها" ويؤكد هؤلاء أن، المغربي محمد موسوي "لا يملك الجنسية الفرنسية، ومع ذلك دعمت وزيرة الداخلية تعيينه في هذا المنصب" حتى انه حسبهم عندما يتحدث باسم الهيئة يتكلم فقط باسم المغرب والملك محمد السادس وليس باسم مسلمي فرنسا الذين يفترض انهم يمثلهم جميعا. وقالت وزارة الداخلية الفرنسية من جهتها ان الجزائريين استخدموا ملتقى فاس "كذريعة فقط" للتعبير عن غضبهم على فوز المحسوبين على المغرب بانتخابات مجلس الديانة الإسلامية الصيف الماضي.وانتقل الصراع ما بين الجزائريين والمغاربة في المؤسسات والجمعيات الإسلامية في فرنسا إلى مستويات أوسع في أوروبا، ليشمل هذه المرة اتحاد المنظمات الإسلامية في أوربا، الرئة التي تتنفس من خلالها جماعة الإخوان المسلمين في القارة العجوز. حيث وجه مسجد باريس، في بيان ، أصابع الاتهام مباشرة إلى اتحاد المنظمات الإسلامية في فرنسا الذي يمثل جماعة الإخوان المسلمين ويقوده المغربي التهامي إبريز، بالوقوف وراء النداءات التي وجهتها بعض الأطراف الإسلامية في فرنسا تدعو إلى تنظيم تظاهرة احتجاجية امام مسجد باريس، للاعتراض على رفض الجزائريين العودة إلى مجلس الديانة الإسلامية في فرنسا، الذي يريد مؤسسه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي ان يجعله المتحدث والممثل الرسمي الوحيد للمسلمين. وقال البيان أن هذه الحركة التي بدأ التخطيط لها عبر توزيع بيانات ومناشير خلال المؤتمر السنوي لاتحاد المنظمات الإسلامية المنعقد مؤخرا، تشكل "سابقة خطيرة في تطبيق وممارسة الشعائر الإسلامية في فرنسا" واتهم أيضا مجلس الديانة الإسلامية، الذي يسيطر عليه المغاربة منذ الصيف الماضي، بالتواطؤ عبر التزام الصمت حيال ما يحدث.وتزامن ذلك مع حديث نشطاء جزائريين بارزين في المؤسسات الدينية في أوروبا عن "عملية تصفية منظمة" يقودها ضدهم رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية في أوروبا، المغربي الآخر شكيب بن مخلوف، ويقول احد هؤلاء، من المحسوبين على تيار الإخوان، أن حصيلة بن مخلوف"ثقيلة" في هذا الاتجاه منذ وصوله قبل سنتين إلى رئاسة المنظمة الكبيرة التي تتقوى ماديا وسياسيا من تيار الإخوان، ويحصي من ذلك بالأسماء والمناصب العديد من الأئمة والخطباء ومسؤولي المراكز التعليمية وحتى مسؤولي بعض المنظمات الطلابية والنسوية المحسوبة على نفس التيار والتي يتم تمويلها من طرف منظمة شكيب بن مخلوف "تم عزلهم وطردهم تماما من مهامهم السابقة فقط لأنهم جزائريين" ويضيف أن هذا التوجه بدأه بن مخلوف منذ كان يرأس فرع المنظمة في السويد، ويذهب محدثنا إلى القول أن "هذه العملية بدأت تأخذ بعدا أكثر وضوحا وثقلا بعد قرار المرشد العام لتنظيم الإخوان، المصري مهدي عاكف، نزع عباءة الإخوان من حركة حمس بفصيليها المتصارعين، وأصبح ظاهرا للعيان أن هذا الدور غير معزول عن جو الفتور الذي يطبع العلاقات الجزائرية المغربية، ويسعى المغاربة إلى قطع الطريق على مساعي مسجد باريس لإطلاق هيئة جديدة تمثل المسلمين في فرنسا، تتشكل أغلبية المبادرين بها من ذوي الأصول الجزائرية. ومنهم منتخبون ونشطاء في الحركة الجمعوية ومسؤولين دينيين في فيدرالية مسجد باريس، وتقول وزارة وزارة الداخلية أنها تخاف أن تشكل الهيئة الجديدة "طعنة في الظهر" لمجلس الديانة الإسلامية.