تفضل الله تعالى على خليله محمد صلى الله عليه وسلم بتوفيقه للاتصاف بمكارم الأخلاق وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ثم أثنى عليه ونوّه بذكر ما يتحلى به من جميل الصفات في آيات كثيرة من كتاب الله العزيز أقتصر على إيراد بعضها من ذلك قوله تعالى: »وإنك لعلى خلق عظيم«. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها أنها سُئلت عن خلقه صلى الله عليه وسلم فقالت: »كان خلقه القرآن« ومعنى ذلك أن امتثال ما أمره الله به واجتناب ما نهاه عنه في القرآن، وصار له خلقاً وسجية، وقد أشارت عائشة رضي الله عنها إلى ما يوضح هذا المعنى في حديث آخر متفق على صحته وهو أنها قالت: »كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في ركوعه سبحانك اللهم وبحمدك، اللهم اغفر لي.. يتأول القرآن«، أي كان يدعو بهذا الدعاء امتثالاً لما أمره الله به في سورة النصر في قوله: »فسبّح بحمد ربّك واستغفره« (النصر: 3). وقد نوّه سبحانه بما جبّل نبيه عليه صلى الله عليه وسلم من الرحمة والرأفة بالمؤمنين والحرص على ما ينفعهم في دينهم وأخراهم، والتألم من كل ما يشق عليهم بقوله سبحانه ممتناً على المؤمنين بإرساله: »لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتُم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم« (التوبة: 128)، وقال: »الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويُحلّ لهم الطيبات ويحرّم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم والأغلال« (الأعراف: 175)، وقال: »واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم« (الحجرات: 7). وأشار سبحانه إلى ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من اللطف والرفق بأمته بقوله تعالى: »فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك« (آل عمران: 159). أما ما اتصف به صلى الله عليه وسلم من النصح والأمانة والقيام بأداء الرسالة على الوجه الذي أراده الله فقد ذكره سبحانه بقوله: »والنجم إذا هوى، ما ضلّ صاحبكم وما غوى، وما ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى« (النجم: 1- 4). ويقول تعالى: »وما هو على الغيب بضنين« (التكوير: 24). وفيها قراءتان بالظاء والمراد به المتهم، وبالضاد والمراد به البخيل، وكلا هذين منفي عنه صلى الله عليه وسلم فليس هو متهما بكتمان ما أرسله الله به وليس ببخيل بما أنزل الله عليه بل يبذله لكل أحد. أخلاقه (صلى الله عليه وسلم) في سنته وأقوال صحابته رضي الله عنهم: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعثه الله بالرسالة العظمى في الذروة العليا من الأخلاق الحسنة، صدقا وأمانة وكرما وحِلما وشجاعة وعفة وقناعة، وغير ذلك من الصفات التي يحظى بالإجلال والإكبار من حصل على واحدة منها، فضلا عمن جمعت له وتوفرت فيه ولما بعثه الله سبحانه بالنور والهدى إلى الثقلين، الجن والإنس، زاده الله قوة في هذه الخصال الحميدة إلى قوته حتى بلغ الحد الأعلى الذي يمكن أن يصل إليه إنسان مصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: »إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق«. وقد نوّه الله سبحانه بتفضله وامتنانه على نبيه وخليله محمد صلى الله عليه وسلم في آيات كثيرة كقوله تعالى: »ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضِلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيم« (النساء: 113)، وقوله: »وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم، صراط الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور« (الشورى: 52- 53). وقوله: »إنا فتحنا لك فتحا مبينا، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخّر ويتمّ نعمته عليك ويهديك صراطا مستقيما، وينصرك الله نصرا عزيز« (الفتح: 1- 3). وقد اختار سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم أصحابا هم خير هذه الأمة المحمدية التي هي خير الأمم، وقفوا حياتهم في سبيل تبليغ دعوته وحفظ سنته تحقيقا لقوله تعالى: »إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون« (الحجر: 9)، ورثوا عن نبيهم صلى الله عليه وسلم ما جاء به من الحق، ورثوه لمن جاء بعدهم حتى هيأ الله له رجالا قاموا بتدوينه منهم، وعلى رأسهم الإمامان الجليلان البخاري ومسلم وغيرهما من المحدثين، فقد أفنوا أعمارهم جزاهم الله خيرا الجزاء في تقييد تلك الدرر الثمينة التي ورثوها عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بواسطة السلاسل الذهبية المتصلة بأمثال مالك ونافع وشعبة وأحمد وعلي بن المديني وغيرهم من خيار هذه الأمة، وهذه الدرر الثمينة التي توارثوها ونعم الإرث هي تشمل أقواله صلى الله عليه سلم وأفعاله وتقريراته وبيان خلقه وأخلاقه ولهذا يعرف المحدثون الحديث بأنه ما أضيف إلى النبي صلى الله عليه وسلم من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي. ولقد اعتنى هؤلاء الورثة الكرام بتدوين ما جاءهم عن نبيهم صلى الله عليه وسلم على سبيل العموم، وبما يتعلق بأخلاقه ومزاياه على سبيل الخصوص، فمنهم من أفرد ذلك بالتأليف، ومنهم من عقد له أبوابا خاصة ضمن المؤلفات العامة أورد فيها ما يتصل بخوفه صلى الله عليه وسلم ورجائه وخشيته لربه، وجوده وكرمه وإيثاره وحياته ووفائه وصدقة وأمانته وإخلاصه وشكره وصبره وحِلمه وكثرة احتماله، ورفقه بأمته وحرصه على التيسير عليها، وعفوه وشجاعته وتواضعه وعدله وزهده وقناعته، وصلته لرحمه، وكثرة تبسمه، وعفته وغيرته، إلى غير ذلك من آحاد حسن خلقه (صلى الله عليه وسلم).