الجزء الثاني تابعنا في الحلقة الأولى من هذا الحوار الشيّق مع المجاهد محمد والكي قصري أحد أهم محضري الثورة التحريرية بقرية سيدي نعمان بولاية تيزي وزو، كيف كانت الترتيبات والتحضيرات لتفجير الثورة التحريرية المسلحة، كما تابعنا مجريات الإصابة البليغة التي أصيب بها في معركة طاحنة ضد الجيش الفرنسي، وكيف نجا بأعجوبة من قبضة العسكر الفرنسي، وستتابعون اليوم أحداثا أخرى شيقة ومثيرة فيما تبقّى من مساره الثوري، وكذا الحجج الدامغة التي يقدمها عن صحة عملية لابلويت فإليكموها.. ما هو أهم حدث لازال عالقا في ذاكرتك إلى الآن من بين الأحداث التي عايشتموها خلال الثورة أو خلال التحضير لها؟ أهم حدث عايشته هو اعتقال رفاقي سنة 1957، الذي كان عبارة عن معجزة من عند الله، مزجت بين الألم والأمل، ففي يوم من الأيام ونحن داخل القرية حاصر الجيش الفرنسي القرية من الصباح حتى المساء، دون أن يعتقل أو يمس أحد، كنت آنذاك مسؤول مقاطعة، وهي المسؤولية التي تقلدتها خلفا لعمر حداد الذي ارتقى إلى مسؤول كتيبة، أحسست أن حصار القرية في الصباح لم يكن اعتباطيا ولا عشوائيا، بل أن أمرا دبره الجيش الفرنسي، وفي المساء كلفني الرائد «سي احسن» بمهمة قتل أحد الخونة في قرية القاهرة، فقلت لسي مقران أنني ذاهب في مهمة، وعليكم أن تغيروا المكان وتتوجهوا إلى غابة ميرة. توجهت أنا إلى المهمة التي كلفني بها الرائد سي أحسن، بنما الجنود الذين أمرتهم بمغادرة المكان لم ينفذوا الأوامر واستثقلوا المغادرة، وقد كان إحساسي في محله، فقد باشر الجيش الفرنسي تمشيطا مكثفا للمنطقة، وأحكم عليها حصارا مشددا، وبينما أنا في طريقي عائدا من المهمة سمعت طلقات رصاص من الناحية التي تركت فيها زملائي، فأوجست خيفة من أن يكونوا قد وقعوا في مصيدة العسكر الفرنسي، في المساء التقيت بسي محند أوبلقاسم، فسألته عن مصدر الرصاص الذي دوى قبل قليل، فأخبرني أن الجماعة سقطت في كمين، مقران وكاتبي ومسؤل منطقة بني مزنزان ألقي عليهم القبض، كانت الحادثة بالنسبة لي الفاجعة الكبرى، وبالنسبة لعاشور الحركي بالقرية بمثابة الغنيمة الكبرى، فقد عذب أمقران عذابا شديدا، ولما جاء دور الحراسة لواحد من الجزائريين المجندين في الجيش الفرنسي أصله من مدينة وهران، وعندما حاول أحد الحركى ضرب مقران منعه، وقال له أنه في هذا الوقت تحت حراستي ومسؤوليتي، الأمر الذي أدى إلى شجار بين الأول والثاني، وبعد أن هدأت الأمور قال الجندي لمقران من كان يبعث لنا بالرسائل لنغادر الثكنة، وكنا نحن قد بعثنا برسائل إلى هؤلاء الجنود نحرضهم فيها على مغادرة الثكنة والالتحاق بصفوف جيش التحرير، فقال له مقران الذي كان منهك القوى من شدة التعذيب حتى أن السلك الذي ربط به كان قد أكل من لحمه، «نحن من كان يبعث لكم بالرسائل»، فقال له لو أطلق سراحك الآن هل تستطيع الهروب؟ فقال مقران، نعم، وعاد ذلك الجندي إلى مقران وقال له هل توصلني إلى «الخاوة» إذا فررنا معك، فقال نعم، وبالفعل أطلقا سراح مقران وفرا معه، وجلبوا معهم بعض الأسلحة، فعندما وصل مقران إلى المخبأ اعترف أن ما حدث هو عدم تنفيذ تعليماتي بمغادرة المكان، قلت لك أنها كانت معجزة على اعتبار أننا خسرنا الكاتب ومسؤول منطقة بني مزنزان، وعوضنا الله في نفس الوقت ثلاثة جنود آخرين وأسلحتهم». في المقابل ما هي أسوأ ذاكرة؟ كانت تلك التي حرمنا فيها من تهريب 30 جنديا جزائريا بثكنة «دي كايي» بأسلحتهم. كيف كانت القصة؟ في سنة 1957، كنا على اتصال مع جنديين من المجندين الجزائريين في الجيش الفرنسي بثكنة «دي كايي» بضواحي ذراع بن خدة، لكي نساعدهم على الهروب، وضعنا خطة محكمة لتهريبهم، قبل ذلك اقترحوا علينا الانتظار قليلا، لأنه سيلتحق بالثكنة حوالي 30 جنديا آخرين، وقد يمكنهم كذلك من الفرار، اتفقنا على هذا الأمر، وفعلا تم اقناع الجنود الثلاثين بضرورة الفرار من الثكنة والالتحاق بصفوف جيش التحرير الوطني، كان في الثكنة حوالي 40 جنديا فرنسيا، اتفقنا على أن يكون الموعد يوم الأحد على اعتبار أنه يوم عطلة بالنسبة للجنود الفرنسيين، وسيقضون يومهم داخل قاعة السينما، مما يسهل علينا الانقضاض عليهم والفرار نحو الغابة. كان هذا هو الاتفاق النهائي مع الجندي الذي كان في اتصال معنا، أعطانا قائمة كل الأسلحة التي كانت بالثكنة، وقال لنا عليكم بجلب بغال لنقلها، وكانت لو نفذناها غنيمة كبيرة جدا بالنسبة للمجاهدين، وضربة موجعة للجيش الفرنسي، اتصلت أنا بدوري بملازم «ح، م» لا أذكر اسم العائلة حتى لا أجرح مشاعرها، من أجل تزويدي ودعمي ببعض الجنود لتعزيز قدراتنا حتى نتمكن من القيام بالمهمة بكل ثقة. ولكن «ح، م» تماطل في مساندتنا حالت دون ذلك، فقد اتفقنا على أن يلتحق بنا بالجنود يوم السبت، على أن ننقضّ على الثكنة في مساء يوم الأحد، إلا أنه لم يصل أي منهم، فاتصل بي الجندي الذي اتفقنا معه بثكنة «دي كايي»، للاستفسار عن السبب، فقلت له أن الجنود انطلقوا في المهمة كما اتفقنا، وفي طريقهم صادفوا الجيش الفرنسي ودخلوا في معركة مما حال دون استكمالهم الطريق، ولم أكن أود إخباره بما حدث مع الملازم «ح، م» الذي لما كان يتعمد في التماطل في بعث الجنود لأسباب سأذكرها فيما بعد، وفي يوم الخميس من نفس الأسبوع بعثت له برسالة ثانية أترجاه فيها أن يبعث لنا الكتيبة يوم السبت لتنفيذ العملية، إلا أنه لم يفعل، مر يوم الأحد دون أن ننفذ العملية، وفي يوم الثلاثاء سمعنا أن إدارة الثكنة حولت الجنود إلى ثكنة آخرى، وبالتالي حرمنا غنيمة كانت ستكون لها انعكاسات جد إيجابية على معنويات وقدرات جيش التحرير بالمنطقة، وبقيت هاته أسوأ ذاكرة في حياتي. خلفت عملية الزرق أو ما يسمى ب«لابلويت» بالولاية الثالثة الكثير من الجدل، وأسالت الكثير من الحبر، فالبعض يقول أنها لا أساس لها من الصحة وأنها مجرد ظنون ومكيدة ومصيدة من المخابرات الفرنسية لتصفية جيش التحرير من الداخل، في حين يعتبرها البعض صحيحة وأن المخابرات الفرنسية زرعت فعلا عملاء في صفوف جيش التحرير الوطني، كيف ترى أنت القضية؟ قضية لابلويت صحيحة مئة بالمئة، وليس فيها أي شك، فرنسا زرعت فعلا في صفوف جيش التحرير عناصر يعملون لصالحها، والكثير من المواقف والأحداث تثبت بما لا يدع مجالا للشك أنهم كانوا مندسين في صفوف جيش التحرير، والبعض منهم كان في منصب المسؤولية، فعلى سبيل المثال لا الحصر أروي قصة الملازم «ح، م» الذي كنت أتعامل معه أنا شخصيا بصفتي مسؤول مجموعة وهو مسؤول كتيبة، وكنت قد رويت لكم قصة إفشاله لعملية فرار الجنود الجزائريين من ثكنة «دي كايي»، فتلك العملية كان المفروض أن توفر لها كتيبة كاملة وبسرعة قياسية، لو كان ينظر لها من منظار مصلحة جيش التحرير، ورويت لكم كيف ترجيته مرتين ولم يفعل، وبعدها تعمدت الإدارة الفرنسية تحويل الجنود الذين كانوا يرغبون في المغادرة، فلماذا التباطؤ؟ ومن أخبر الإدارة الفرنسية حتى يتم تحويل كل الجنود، فهاته الحادثة الأولى؟. -الثانية: وقع بعض المجاهدين بمنطقة إيقوراس في يوم من الأيام في اشتباك مع الجيش الفرنسي، وكان المجاهدون مسلحون جيدا، مما صعب على الجيش الفرنسي القضاء عليهم، ودامت المواجهة قرابة يوما كاملا، فقلت للملازم «ح، م» علينا أن نسرع إلى نجدتهم، فرفض، وكنت أنا مسؤول مجموعة وهو مسؤول كتيبة، حاول إيهامنا بانتظار العسكر الفرنسي في منطقة ما، فرأيت أن المكان لا يصلح بتاتا للقيام بالعملية. في الصباح سطرت مع عمر درويش خطة محكمة للتدخل، فقلت له عليك أن ترابط في الأعلى بمقبرة بوردين، وأنا والمجموعة في الأسفل، ولا تطلق النار إذا ما كان الفرنسيون متوجهون إلى الأسفل نحونا، أتركهم ينحدرون حتى يدخلوا في شباكنا، فنواجههم نحن بالسلاح، وإذا ما فروا نحو الأعلى يجدوكم أنتم بالمرصاد، إلا أن «م،ح» أمر عمر درويش بتغيير الخطة دون علمي. وصل الجيش الفرنسي كما خططنا له، ولكننا تفاجأنا أنهم كانوا على دراية بمكاننا، وأنهم هم من باغتونا وليس نحن، ومع ذلك واجهناهم بالسلاح، ودفعنا أغلبهم للفرار ناحية المقبرة أين من المفروض أن يكون عمر درويش وجماعته. ظننا أن المعركة تسير كما خططنا لها، انتظرنا رد عمر درويش لكن ولا رصاصة أطلقت، وفر الجنود الفرنسيون، في المساء التقيت بعمر درويش، واستفسرته غاضبا عن سبب عدم تنفيذه الأوامر، فقال لي أن «ح، م» منعه من ذلك، وأمره بأن يرابط في مكان آخر، وهذه حادثة ثانية تثبت تورطه في وشاية بنا للجيش الفرنسي. تتابعون في الجزء الثالث: - حججا أخرى عن عملية لابلويت واكتشاف خونة في صفوف جيش التحرير الوطني. - أهم القادة الذين تعامل معهم ولقاءه بالعقيد عميروش.