في ساعة مبكرة من صبيحة يوم الخميس، تحركت القافلة باتجاه ولاية برج بوعريريج، الكل بدا نشطا حيويا مثل طفل صغير يرافق والده في رحلة، ويريد الوصول إلى مدينة تاريخية كثر الحديث عنها على أنها «الإلدورادو» ولكن بالجزائر، كانت الساعة تشير إلى الرابعة والنصف فجرا، حينما دارت محركات المركبات باتجاه مدينة القليعة ببرج بوعريريج بمرتفعات تعانقت منذ زمن، بعد مدة سير قاربت حوالي الساعتين، اقتربنا في شوق ولهفة لاكتشاف هذا الكنز السحري. القليعة.. موقع من عالم آخر في أعالي جبال تساصرت ببرج بوعريريج، تقع القليعة وهي عبارة عن دشرة صغيرة لكنها بحكاياتها العظيمة وأساطيرها تبدو للسامع وكأنها في مكان مقدس لرهبته، الناظر إلى القليعة يرى للوهلة الأولى مزيجا بين الطبيعة والحياة البدائية، جمال المكان سهّل طريقة العيش وابسط الأشياء زادته رونقا، إن مكتشف المكان لا يستطيع أن ينساه حيث يُكون معه علاقة حميمية دافئة تدفعه لاكتشاف المزيد وهذا هو الشعور الذي انتابني عند زيارتي لها لأول مرة. حرارة الاستقبال ومتعة الاستكشاف وصلت القافلة إلى المكان وما إن وطأت أقدامنا الأرض، إذ بنا نرى شيوخ وكبار الدشرة في انتظارنا، حرارة الاستقبال ومحبة التعرف، الفرحة كانت بادية على وجوههم، شعرنا بها للوهلة الأولى إنهم أناس عذارى لا يعرفون من الأحاسيس السلبية كالبغض والكره والحقد شيئا، أناس تنعكس الطبيعة على وجوههم بجمالها وخشونتها ونسيمها، بدأنا جولتنا الاستكشافية في أزقة الدشرة، أبواب البيوت كلها مفتوحة للزائرين، بدأنا في التقاط الصور، فالانبهار كان باديا في عيون الكل، دخلنا كل البيوت تقريبا بعضها كانت مجهزة وبها كل وسائل الحياة الطبيعية، ومنها ما كان طور الترميم، أخذنا رونق المكان وبقينا نجوب لساعات في الأزقة والبيوت والجداول الخلابة. بعدما أشبعنا القليل من فضولنا في الازقة والبيوت، أخذنا الشيوخ وكبار الدشرة إلى المسجد الكبير أو كما يسمونه الزاويا؛ دخلنا الزاوية بخطى ثابتة ورهبة المكان تملأ أنفسنا، جلسنا في إحدى الغرف، أول ما ترآى لنا مجموعة الكتب المعتبرة الموضوعة بالترتيب في خزانة كبيرة تغطي جدار مدخل الغرفة، وبينما نحن جالسون مع شيوخ الدشرة، دخل علينا رجل كبير في السن من خطاه يبدو عليه الوقار ومن طريقة نهوض شيوخ الدشرة إليه، علمنا قدره الكبير بينهم، الرجل كفيف ومعطوب حرب بكل فخر هو المجاهد سي لوصيف شارك في ثورة الفاتح من نوفمبر؛ بعدما تعرفنا على كل الحاضرين، أعطيت الكلمة الى أستاذ جامعي في الفيزياء النووية وهو ابن الدشرة، بدأ يسرد القصص على مسامعنا، فساد الصمت. تاريخ ضارب في الأعماق يعود تاريخ الدشرة إلى حوالي 7 قرون منذ اكتشافها من طرف أحد الوافدين من سوريا العلامة الشيخ أحمد أبي حمص، حيث انبهر بالموقع فاستقر فيه وجعله مكانا للعبادة والدين، المعلومات عن الشيخ قليلة او تكاد أن تكون منعدمة لقلة التجريد. يوجد عدة زوايا في الدشرة اختلف الكثيرون حول تاريخها وشيوخها نذكر منها الزاوية الرحمانية والعلوية والشاذلية، من أبرز مؤسسي الدشرة، الأستاذ الشيخ أحمد البوزيدي، هو من أوائل المتصوفين الذين مروا على المكان وعمّروا فيه، الشيخ درس في جامع الأزهر بمصر وأخذ الشهادة من طرف الملك فؤاد آنذاك، بعدها قام بالتدريس بالأزهر، ليصبح أول جزائري يدرس فيه. الجانب المعماري ذو طابع إسلامي قال الأستاذ إن الجانب المعماري البربري ذو الطابع الإسلامي أضفى لمسة خاصة على الموقع ونخص بالذكر المسجد من حيث الموقع وطريقة البناء حيث الصخور والمنازل وتأثير البناء الذي يتناسب مع التضاريس، واستدرك «توجد طرقات ومجاري المياه وتقسيمات دقيقة في المنازل، كل تقسيم لديه وظيفة بحكم التضاريس الصعبة». تقاليد وثقافة الدشرة نابعة من محيطها، مثل «التويزة» وهي رمز من رموز التآخي والتعاون حيث يقوم الأهالي من خلالها بمساعدة بعضهم البعض في شتى المجالات الحياتية في الأعراس، الولائم وحتى المآتم. خلايا عمل لراحة الزائر وأضاف المتحدث أن العمل مقسم بالتساوي وحسب القدرات، فالرجل لديه أعماله كل حسب اختصاصه من النجار الى الحداد والبنّاء، وحتى المرأة لديها نصيبها من الأعمال من ملأ الماء الى الحياكة وغيرها من الأشغال، وأشار إلى أعمال جماعية حتى ولو كانت الفائدة خاصة مثل إصلاح الطرقات، تنظيم الأعراس ونوه قائلا «الكل يتعاون، فالجميع لفائدة الفرد والفرد لفائدة الجميع»؛ كما ذكر المتحدث عن التنظيم المحكم قائلا «يوجد بالدشرة رحاء عمومية مائية اي تعمل بقوة الماء، فيها تقسيم هندسي لحقوق الاستعمال أي بالدور نفس الشيء بالنسبة للسقي، فالكل ينتظر دوره وكأننا نرى خلية نحل، فالجميع يعرف وظيفته وهذا لوجود قوانين وقواعد سنها شيوخ الدشرة منذ الأزل وكل من يخالف إحداها يتعرض للجزاء أو العقاب، فمثلا إذا قطف أحد المزارعين الثمار قبل أوانها يُعاقب». الدشرة.. الأزمات والثورة لفت الأستاذ إلى تعرض سكان المنطقة لعدة أزمات منها المجاعة في سنوات الأربعينيات، فأصبحت المنطقة خالية بسبب الفقر؛ كما نالت الدشرة نصيبها السيء من الاستعمار الفرنسي الغاشم، فبحكم موقعها وصعوبة الوصول إليها، كانت منطقة تواجد المجاهدين وملجأ لهم قائلا «كانت تستعمل المغارات بمثابة مستشفيات تسمى مغارات إفري، كما أن الدشرة كانت منطقة عبور مهمة»؛ وأشار الأستاذ إلى تفطن الجنرال ديغول للمكان ولم يجد سبيلا للوصول إلى الدشرة والتمكن منها بسبب مسالكها الوعرة ما لم يمكن شاحنات ودبابات المستعمر من الولوج إليها، وفي عام 1958 م، قرر الجنرال أن تكون منطقة محرمة حيث قام بالضغط على السكان ومنع جل الموارد عنهم ما مكنه من التحكم بهم، فأصبح كل رجلٌ يأخذ الطعام بمقدار أفراد عائلته وذلك لأن الأهالي كانوا مصدر تمويل المجاهدين، وفي 10 أفريل من سنة 1959، وقعت المجزرة التي راح ضحيتها أكثر من 15 مجاهدا ومن 11 الى 12 أفريل، طلب السكان حقهم في ذويهم الذين توفوا، فقوبلوا بالرفض وفرض عليهم التجنيد مع فرنسا. ترحيل وتهجير ينوه المتحدث قائلا «قابل السكان قرار التجنيد بالرفض، على إثره، قامت فرنسا بترحيلهم وتهجيرهم عن المنطقة بوضع العائلات في خيم حيث كان عدد السكان آنذاك حوالي 1800 نسمة، وعن كيفية إسكان الأهلي، كانت توضع كل عائلتان في خيمة واحدة بدون أن تكون لهما صلة قرابة، حيث تم الإختيار عشوائيا وهذا ما سبّب الإحراج للسكان واستطرد المتحدث أن الفرنسيين على دراية تامة أن هذا الخلط لا يتنافى مع الدين الإسلامي، وأضاف «لم يكف كل هذا التنكيل، فكان لابد من فصلهم نهائيا عن الثورة والمجاهدين والأحداث بصفة عامة، ما جعل المستعمر يصل الى قرار فصل الرجال عن النساء في الخيام»، موضحا أن النسوة كن تنمن الليل في الخيام لوحدهن، أما الرجال، فأجبروا على النوم في الحمامات وما الى ذلك. الاستقلال وعودة الأهالي حتى عام 1962، كانت القرية مهجورة، وذكر المتحدث أن الاستقلال كان استقلالين الأول في الجزائر والثاني العودة إلى الديار، ليرجع السكان ويلتم شمل الأهل ويعود نمط الحياة، بعد الاستقلال، عادت الحياة الى ما كانت عليه وأعيد ترميم المسجد والبيوت وجل ما هدم، وكان لابد من إعادة تنظيم الحياة في الدشرة، فأسّست الجماعة، وهي عبارة عن مجموعة من المشايخ يسنون القوانين ويحافظون على النظام في المكان وهي رمز يدل على التعايش بين الزوايا، أما عن سنوات الدم، فلفت المتحدث قائلا: «الدشرة لم تتعرض للإرهاب وعاشت بعيدة عن كل ما وقع في تلك الفترة، إلا ما كانت تسمعه من أحداث وقعت هنا وهناك»، وأضاف «في العشرية الأخيرة، أصبح عدد السكان في الدشرة قليلا عدا القاطنين في الزاويا وطالبي العلم». أصبح المكان مقصدا لطالبي العلم من حفظة القرآن الكريم والسنة والفقه وما يتعلق بالدين الحنيف، ما حمل الأهالي على رعاية الطلاب والتكفل بهم، فمازال سكانها الأصليون يأتون إليها من كل فج، لتقوم الجماعة بجمع الأموال والتبرعات منهم قائلا «يقوم السكان كل عام بالتبرع بأجر شهر كامل من أجل موطن الأجداد، ليعاد ترميم ما يلزم وتوفير أجر القائمين عليها، لتبقى دشرتهم شامخة ومعها أسرار وخفايا كثيرة، فطموح الجماعة المحافظة على الدين والأصول وإبراز التاريخ وجعلها منطقة سياحية». بدأت الشمس في المغيب معلنة زمن العودة، تركنا القرية الساحرة وأعيننا مشدودة إليها، وكأنه فراق الحبيب ليس كغيره من الوداع، البعض منا ردّد في أمل أن يجسد مسؤولونا مشروعا يعيد للقلعة التاريخية حياتها التي تخطاها الزمن بغبار النسيان ويستثمرون في كنز نادر الوجود.