اعلموا أن العقل أو القلب دال على الله بنفسه، دال على حسن مأموراته وقبح منهياته، قادر على استطلاع عواقب الأمور فإن ترك بنفسه ولنفسه دون أن ينزلق به الهوى إلى مواقع الردى كان دليل صاحبه إلى السعادة في الدنيا والفوز في الآخرة، ومع ذاك فإن الحق سبحانه وتعالى أرسل الرسل مذكرين ومنبهين وتفضل على خلقه بأن قال: »ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا« وذلك من فيض كرمه ورحمته بخلقه عز وجل. فأصل اعتلال القلب أكثره هوى، والهوى لا يذم على الإطلاق لأنه من خلق الله من أجل جلب المصالح كالحفاظ على الحياة والحفاظ على النوع، ولكن الإنسان خلق ضعيفا فكثيرا ما لا يقف في استجابته لهواه عند حدود المصلحة ويتعداها إلى ظلم نفسه وغيره وهذا أصل اعتلال القلب وتهديم أركان القلب السليم الذي لا ينفع غير صاحبه يوم القيامة. والهوى نزوع أعمى يقصد اللذة دون قناعة بحد، ودون تمييز بين حق وباطل، وبين حسن وقبيح دون اعتبار للعواقب، وهذا نراه في الأطفال أو في البهائم، إلا أن الإنسان فضل على البهائم بعقل وقلب يقدران العواقب ويميزان بين الحسن والقبيح ويرجوان الآجلة ويقدمانها على العاجلة وتلك هي الأمانة التي عرضت على الجبال فأبت أن تحملها وحملها الإنسان فالله المستعان. قال ابن الجوزي رحمه الله: »واعلم أن الهوى يسري بصاحبه في فنون ويخرجه من دائرة العقل إلى دائرة الجنون، وقد يكون الهوى في العلم فيخرج بصاحبه إلى ضد ما يأمر به العلم، وقد يكون في الزهد فيخرج إلى الرياء). وقد قال الحق سبحانه وتعالى في سورة النازعات في مدح مخالفة الهوى »ونهى النفس عن الهوى«. أي خاف القيام بين يدي الله تعالى وخاف حكم الله فيه ونهى نفسه عن هواها وردها إلى طاعة مولاها أو زجرها عن الميل إلى المعاصي والمحارم التي تشتهيها. واعلموا أن مأمورات الله ومنهياته إنما هي لمصلحة العباد أنفسهم ودرءا لظلم بعضهم بعضا، فالله لا يأمر إلا بالطيب والحق والفاضل ولا ينهى إلا عن خبيث وباطل ودنيء حتى قال أحد العارفين: قد لا يعرف قدر الدين من لم يحط بمنهيات الله عز وجل. فمن لم يقدر القبح والدناءة في الشرك أو قتل النفس أو شرب الخمور وما إليها أو ارتكاب الفاحشة أو شهادة الزور، أو عقوق الوالدين، أو أكل أموال الناس بالباطل لا يقدر الله حق قدره ولا يقدر دينه، من هنا وجب تبصير العقل في قبح هذه الأفعال وأثارها على صاحبها وغيره وتذكير النفس بالحساب بين يدي الله تعالى ترويضا للهوى ووصولا إلى القلب السليم. وللشيخ الشعراوي رحمه الله لطيفة في هذا المنحى إذ يقول رحمه الله إن الله عندما يحرم عليك الزنا فأنت واحد ولكنك قد كسبت بذلك أن حمى عرضك من الآلاف فتلك مصلحة واسعة لك فيما حرمه الله عليك، وقل مثل هذا في كل منهي عنه. يقول أبو القاسم اللجائي في شمس القلوب: »ومن شروط موت القلب إيثار الدنيا على الآخرة واقتحام ما تجب فيه العقوبة بعد العلم بذلك« فإن آثر الإنسان الدنيا القصيرة على دار الخلود ولم يرَ وجه القبح في المعصية ثم اقتحمها مع علمه بأن الله يراه وأنه سيعرض عليه عمله يوم القيامة وسوف يحاسب عليه مما قد يعرضه لعقوبة لا تتحملها الجبال فإن ذلك من علامات موت القلب واعتلاله. ويقول: »ومن شروط موت القلب أيضا الاشتغال بزخارف الدنيا، والبحث على جمع المال خوفا من شدائدها مع قلة الاهتمام بالدين وتضييع مصالح الآخرة«. فما أقل حاجة العبد من هذه الدنيا ومع ذلك يمضي أكثر عمره في اللعب مما فيها وإعمارها ويجمع من المال ما يورثه لغيره دون أن يهتم بأمر دينه تعلما وذكرا ومراقبة وخشية وعملا ومجاهدة فيرحل إلى آخرة خربة لم يعمرها بحياته وتلك فرصة واحدة لا تتكرر ألا فلنستغلها.