لا يصح إيمان العبد إلا بالإيمان بالرسل، وهذا الواجب الديني في جانب العقيدة يشكّل الركن الرابع من أركان الإيمان، ولهذا الواجب الإيماني أدلة شرعية متواترة، فقد أمر سبحانه بالإيمان بهم وقرن ذلك بالإيمان به فقال "فآمنوا بالله ورسله"، وجاء الإيمان بهم في المرتبة الرابعة من التعريف النبوي للإيمان كما في حديث «جبريل» "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله"، رواه «مسلم»، وقرن الله سبحانه وتعالى الكفر بالرسل بالكفر به، فقال "ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا"، ففي هذه الآيات دليل على أهمية الإيمان بالرسل ومنزلته من دين الله عز وجل. بين النبي والرسول اختلف العلماء في التفريق بين معنى النبي والرسول على أقوال، والقول الأول أنهما سواء، أي أنهما لفظان مترادفان واستدلوا على ذلك بقوله تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي"، فأثبت لهما معاً الإرسال، قالوا "ولا يكون النبي إلا رسولا، ولا الرسول إلا نبيا"، والرد على هذا القول يكون بأن الله فرق بين الاسمين، ولو كانا شيئاً واحدا ما حسن تكرارهما في الكلام البليغ، والقول الثاني أنهما مفترقان من وجه ويجتمعان من وجه آخر، قال «القاضي عياض» "والصحيح والذي عليه الجمع الغفير أن كل رسول نبي وليس كل نبي رسولا"، واستدل على ذلك بما رواه الإمام «أحمد» و«الحاكم» و«ابن حبان» عن «أبي ذر» رضي الله عنه أنه قال: قلت "يا رسول الله، كم وفاء عدة الأنبياء؟"، قال "مائة ألف، وأربعة عشر ألفاً، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جماً غفيرا"، إلا أنه وعلى الرغم من اتفاق أصحاب هذا القول على وجود فرق بين النبي والرسول، إلا أنهم اختلفوا في تحديده على أقوال، ولعل أرجحها ما ذهب إليه البعض من أن الرسول من بعث بشرع جديد وأمر بتبليغه، والنبي من أمر بالتبليغ ولكن بشرع من سبقه من الرسل، كحال أنبياء بني إسرائيل الذين كلفوا بتبليغ شريعة موسى عليه السلام، وقال شيخ الإسلام "فأولئك الأنبياء يأتيهم وحي من الله بما يفعلونه ويأمرون به المؤمنين الذين عندهم لكونهم مؤمنين بهم، كما يكون أهل الشريعة الواحدة يقبلون ما يبلغه العلماء عن الرسول، وكذلك أنبياء بني إسرائيل يأمرون بشريعة التوراة، وقد يوحى إلى أحدهم وحي خاص في قضية معينة، ولكن كانوا في شرع التوراة كالعالم الذي يفهمّه الله في قضية معنى يطابق القرآن، كما فهّم الله سليمان حكم القضية التي حكم فيها هو وداود، فالأنبياء ينبئهم الله فيخبرهم بأمره ونهيه وخبره، وهم ينبئون المؤمنين بهم ما أنبأهم الله من الخبر والأمر والنهي". حبّهم من الإيمان تختلف مرتبة الإيمان بالرسل، فهناك الإيمان المجمل وهو الإيمان بجميع الرسل على وجه الإجمال وبمحمد صلى الله عليه وسلم على وجه الخصوص، فهذا واجب على عموم الأمة، وهناك الإيمان المفصّل، وهو الإيمان بجميع الرسل ومعرفة ما ثبت في الشرع عنهم؛ من أسمائهم وأسماء الكتب التي أنزلت عليهم، وهذا فرض على مجموع الأمة لا على كل فرد بعينه، حيث إذا قام به من تحصل به الكفاية في تعليم الناس وحفظ دينهم سقط عن الآخرين، والإيمان بالرسل يتضمن أمور منها التصديق بنبوتهم وبما جاءوا به من عند الله، قال تعالى "والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون" وعدم التفريق بين أحد منهم، قال تعالى "آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله"، وتوقيرهم وتعظيمهم، قال تعالى "لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه وتسبحوه بكرة وأصيلا"، قال «ابن عباس» رضي الله عنهما "تعظموه وتوقروه، من التوقير وهو الاحترام والإجلال والإعظام، وأجمع العلماء على أن من انتقص نبيا من الأنبياء فقد كفر"، واعتقاد عصمتهم في تبليغهم الوحي وعصمتهم من الكبائر والصغائر. الحكمة من إرسالهم تتلخص الحكمة في إرسال الله رسله إلى الناس في أمور منها: - إقامة الحجة على العباد وتبشير المؤمنين بنعيم الله وجنته في الآخرة وإنذار الكافرين من عذابه وعقابه، قال تعالى "رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما" وقال صلى الله عليه وسلم مبينا الحكمة من بعثة الرسل "ولا أحد أحب إليه العذر من الله، من أجل ذلك بعث الله المرسلين مبشرين ومنذرين"، رواه «البخاري» و«مسلم». - إقامة الدين وسياسة الدنيا به، فقد كان الأنبياء هم الساسة الذين يديرون شؤون الناس، قال صلى الله عليه وسلم "كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي"، متفق عليه. - توحيد الأمة دينيا وسياسيا، وذلك أن انقياد الأمة للرسل يجعلهم يدينون لهم بالطاعة ويتبعونهم فيما جاءوا به من الدين الحق، فتتحقق بذلك وحدتهم الدينية والسياسية. - تحقيق القدوة والأسوة العملية، وهذه لها فوائد منها دحض حجة من يزعم أنه ليس في مقدوره تطبيق تلك الشرائع، وتحقيق الأسوة والقدوة للمؤمنين في كيفية تطبيق تلك الشرائع وكيفية العمل بها، لأن كثيرا من الأمور النظرية تختلف الأفهام في تطبيقها، وتحقيق الأسوة والقدوة للمؤمنين بحثهم على الإكثار والاستزادة من فعل الصالحات، اقتداء بالأنبياء عليهم السلام. شرائع متنوعة وعقيدة واحدة تتمحور دعوة الرسل جميعا حول قضية واحدة، هي عبادة الله وحده وترك عبادة من سواه، وهذا الأمر يشكِّل لب دعوة الرسل ومجمع رسالتهم، ومن خلال استعراض القرآن لدعوة الرسل نجد أن هذه القضية واضحة جلية، مدلل عليها بأدلة كثيرة، قال تعالى "إن الدين عند الله الإسلام"، وقال "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، والإسلام هو الدين الذي نادى به جميع الأنبياء، فنوحٌ يقول لقومه "وأمرت أن أكون من المسلمين"، والإسلام هو الدين الذي أمر الله به إبراهيم عليه السلام، قال "إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين"، ويوصي كل من إبراهيم ويعقوب أبناءه قائلا "فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون"، وأبناء يعقوب يجيبون أباهم بعد أن سألهم ما يعبدون من بعده "نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلها واحدا ونحن له مسلمون"، وموسى ينادي قومه قائلا "يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين"، والحواريون يقرّون لعيسى عليه السلام بقولهم "آمنا بالله واشهد بأنا مسلمون"، وحين سمع فريق من أهل الكتاب كلام الله قال "آمنا به إنه الحق من ربنا إنا كنا من قبله مسلمين"، فالإسلام شعار عام دعا إليه الأنبياء وأتباعهم منذ فجر البشرية إلى عصر النبوة المحمدية، والإسلام هو الطاعة والانقياد والاستسلام لله تعالى بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، ولذلك فإن الإسلام في عهد نوح كان باتباع ما جاء به نوح، والإسلام في عهد موسى كان باتباع شريعة موسى، والإسلام في عهد عيسى كان باتباع الإنجيل، والإسلام في عهد محمد صلى الله عليه وسلم كان بالتزام ما جاء به الرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الأدلة على تمركز دعوة الرسل حول توحيد الله سبحانه ونفي عبادة من سواه، ما صرح به سبحانه في قوله تعالى "ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت" ومن ذلك قوله تعالى "وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون"، وقال صلى الله عليه وسلم "الأنبياء إخوة لعلات، أمهاتهم شتى ودينهم واحد"، أخرجه «البخاري» و«مسلم»، وأولاد العلات مَنْ لهم أب واحد وأمهات شتى، فوحدة الأب إشارة إلى أن الدين واحد وهو التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له، واختلاف الأمهات إشارة إلى الاختلاف في فروع الشريعة، فشريعة عيسى تخالف شريعة موسى في بعض الأمور، وشريعة محمد صلى الله عليه وسلم تخالف شريعة موسى وعيسى في أمور، قال تعالى "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا". دلائل نبوّتهم معجزات الرسل هي الآيات التي أجراها الله على أيديهم تصديقا لهم وبرهانا على الحق الذي معهم، ولهذا سماها الله تعالى "آيات"، أي علامات دالة على صدقهم، وتأييد الله لرسله بالمعجزات من كمال عدله ورحمته ومحبته للعذر وإقامته للحجة على العباد، إذ لم يبعث الله نبياً من الأنبياء إلا ومعه آية تدل على صدقه، قال تعالى "لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط"، وقال تعالى "فإن كذبوك فقد كُذب رسل من قبلك جاءوا بالبينات والزبر والكتاب المنير"، وقال صلى الله عليه وسلم "ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة"، متفق عليه، ومن عظيم حكمة الله عز وجل أن جعل معجزات رسله من جنس ما أبدع فيه القوم المرسل إليهم، إمعاناً في الحجة وقطعاً للعذر، فلو جعلت معجزة الرسول في أمر يجهله من أرسل إليهم لكان لهم عذر في عدم إحسان ما يجهلونه، فموسى عليه السلام أرسل في قوم كان السحر شائعا بينهم، فآتاه الله من الآيات ما فاق به قدرة السحرة على أن يأتوا بمثله، فلما رأى السحرة ذلك علموا أن هذا أمر ليس من فعل السحر وإنما هي المعجزة الربانية التي أيَّدَ الله بها نبيه موسى، فما كان من السحرة إلا أن آمنوا وأذعنوا، ولما بعث الله تعالى عيسى عليه الصلاة والسلام في بني إسرائيل كان فن الطب فيهم شائعا، فاقتضت حكمته تعالى أن جعل كثيرا من معجزاته عليه السلام من قبيل أعمال أهل الطب، فأبرأ الله على يديه الأبرص والأكمه وأحيا الموتى، فآتى الله عيسى عليه السلام معجزة المشافاة من الأمراض باللمسة والدعاء، وكل ذلك يدل على أن فعله عليه السلام لم يكن من جنس ما يفعله الأطباء، فإن الأطباء يمكنهم أن يشفوا من البرص ولكن بعد معالجة وزمن وكذلك يمكنهم أن يشفوا من العمى الذي يكون عرضيا، وأما شفاء الأكمه فليس في طاقتهم وكذلك إحياء الموتى، ومثل ذلك مع نبينا صلى الله عليه وسلم، فقد بعث في قوم كانوا أهل فصاحة وبيان، وكان صلى الله عليه وسلم أميا لا يقرأ ولا يكتب، فلما بعثه الله عز وجل جعل معجزته من جنس ما نبغ فيه العرب، وهو الكلام الفصيح، فآتاه الله القرآن وتحدى العرب أن يأتوا بمثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بعشر سور مثله فعجزوا، ثم تحداهم أن يأتوا بمثل سورة منه فعجزوا، ثم أعلمهم بأنه لو اجتمع البشر كلهم وتظاهرت الجن معهم على أن يأتوا بمثل هذا القرآن ما استطاعوا أن يأتوا بمثله، قال تعالى "أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين"، وقال تعالى "أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين"، ولا يعني ما سبق أن المعجزة لا تأتي إلا على وجه واحد حسب حال الناس وواقعهم، بل ربما جاءت المعجزة بناء على طلب المرسَل إليهم، كطلب الحواريين من عيسى أن ينزل عليهم مائدة من السماء فأجابهم إلى ذلك وكطلب قوم صالح منه أن يخرج لهم من الصخرة ناقة فدعا الله فأجابه وكمعجزة انشقاق القمر ونبع الماء ونحو ذلك، إلا أن المعجزات تجتمع جميعها في غاية واحدة هي تأييد الأنبياء وإظهار صدقهم.