الجزائر على كف عفريت هكذا عنونت الصحافة العالمية بالبنط العريض على صفحاتها الأولى، بعد قيام مجموعة من الشباب المستشيط غضبا، بالاعتداء على مصانع تركيب السيارات، حيث أضرموا النيران في كل المركبات كما اعتدوا على عمال المصانع المتواجدة عبر مختلف ولايات الوطن، قوات الأمن تتدخل لفك الحصار على العمال وعزل الشباب الغاضب، الذي إتجه بدوره إلى الشارع للتظاهر والاحتجاج، بعد التحايل الواضح في الأسعار من قبل المركبين، الشارع ملتهب ..عجلات مطاطية محترقة تزكم الأنوف، متاريس متراصة في كل مكان، حالة إستنفار قصوى في مراكز الأمن، أنظار العالم متجهة إلى الجزائر ودعوات لضبط النفس وللتهدئة. ! كان يمكن جدا أن يكون هذا هو السيناريو العنيف الذي قد يلجأ إليه الجزائريون واقعيا وليس كما تخيلته، فيما يخص قضية ارتفاع أسعار السيارات التي كشفت وزارة الصناعة عن وجود شبهة للاحتيال واضحة على الزبائن، من خلال ارتفاعها الفاحش، وهو ما يفسر إرسالها للجنة تحقيق عبر هذه المصانع التركيبية، لكن الذي حدث كان العكس تماما، حيث وبطريقة راقية وفاعلة، قام الجزائريون بمقاطعة شراء هذه السيارات، مما أحدث انتكاسة حقيقة لهؤلاء (المركبين الجشعين) الذين يبيعون سيارات بأسعار خيالية أكبر بأضعاف من المصنعة في بلدانها الأصلية !. لا شيء قد يزعزع ثقة هؤلاء التجار والمركبين الجشعين في أنفسهم، سوى رؤيتهم لسلعهم تتآكل أمامهم، والزبائن مقاطعون لها وغير مبالين بها، ولعل من خلال هذه المقاطعة، يمكن أن نقرأ بداية تشكل لمراسم وعي لدي المواطنين الجزائريين استهلاكيا على الأقل، هذا الأخير هو المقياس الحقيقي لأنه مرتبط بحاجياتهم اليومية، فلما يحجم المواطنون على دفع أموالهم لشراء سلعة ما، لان هناك موقفا شعبيا رافضا لجشع أصحابها، هذا في حد ذاته انتصار أمام رغباتهم الشخصية لصالح موقف الجماعة ومن هنا تتشكل معالم الرأي العام الحقيقي، ويجب أن تستمر هكذا مبادرات في أي قضية اجتماعية أو اقتصادية كانت أو سياسية. التعبير عن الرفض بدون عنف وتخريب، هو سلوك حضاري تتبناه المجتمعات الراقية، التي تراعي فيه مصالح الأفراد وكذلك المجتمع ودولتها بمفهومها العام، كما انه يعبر عن وعي عميق يحرك الأفراد، ويصنع توجههم من قضية ما، في الوقت الذي يتم التمسك بالمطالب دون أن تضر بمصالح مواطنين آخرين، فمقاطعة الجزائريين للسيارات حتى وان بدى موقفا بسيطا، إلا انه فعال وحقيقي تتجلى فيه معالم الوعي ومعرفة الهدف والغاية من هذا التحرك . فالوعي الحقيقي يتشكل من خلال التجربة، الخبرة وكذلك التضحية، وهذه الثلاثية هي الضامن الأساسي للاستقرار في أي بلد، وقد كانت السنوات السبعة الأخيرة، محكا حقيقا أمام الجزائريين، لتكريس المفهوم (الوعي) على أرض الواقع، حيث بعدما عصف ما يسمى ب(الربيع العربي) على عدة بلدان شقيقة وخرب بيوتهم وحول حياتهم إلى جحيم، لم ينجر الجزئريون وراء تلك الدعوات التخريبية لبلادهم ولم يركبوا موجة الخراب القادمة من الشرق الملتهب، باستثناء أحداث الزيت والسكر التي بدأت وتوقفت بشكل سريع في 2011، لأنهم كانوا على دراية واضحة بمألات هذه التحركات التي تحدث في الشارع العربي، باعتبارها غير بريئة الأسباب والأهداف، ولأنهم أيضا عايشوا ما يكفيهم الويلات في العشرية السوداء التي كادت تعصف بالبلاد !. نحتاج أيضا الى جرعة زائدة من هذا الوعي لكي يتمدد في أذهان بعض الجزائريين، إلى فهم عميق للإيديولوجية الدينية المستوردة من الخارج التي ترغب في تهديم(المرجعية الدينية الوطنية) وضرب إستقرار بلادنا لخدمة أغراض ضيقة هنا وهناك، خاصة من قبل مشايخ وتجار دين يدعون العصمة ويبثون بذور التفرقة في وسط هذا الشعب الموحد، فالجزائر لم تكن يوما طائفية، إلا أن هناك تحركات ترغب في لبننتها (من لبنان) حتى يسهل التحكم فيها وتخريبها، فقد أصبحنا نسمع بمسجد تابع للتيار الفلاني، وأخر يرتاده المتعصبين للتيار أخر، وقد إنقسم الجزائريون أجزاء مجزأة من خلال هذه التيارات الدخيلة والمستوردة والتي تخدم مصالح أصحابها في الخارج فقط ولا تفيد الجزائر في شيء.
فهؤلاء المشايخ بمثابة تجار لا غير بعباءات دينية مختلفة يرغبون في تسويق منتجاتهم (الدينية) على حساب المرجعية الوطنية، والأكيد أنهم سيروجون لها على أنها أفضل المنتوجات على وجه المعمورة، مثلما يتم التسويق للسيارات المركبة في بلادنا بتلك الأسعار الباهضة التي فضحتها الوزارة.. وفي الأخير لكم حرية تخيل نشوب حرب مذهبية في الجزائر لا قدر الله، إذا غاب الوعي وغابت المقاطعة لهذه الأفكار الداعية الى الفتنة، والأكيد أنها لن تكون مثل الحراك الذي تخيلته في مقدمة هذه الخربشة حول ارتفاع أسعار السيارات المركبة في الجزائر!.