فاني كولونا الباحثة التي أعطت حياتها للجزائر و شرحت تحولاتها الاجتماعية توفيت الباحثة الأنثروبولوجية و عالمة الاجتماع الجزائرية فاني كولونا منتصف شهر نوفمبر الماضي، و تركت تقاليد عريقة للباحثين في مجالات العلوم الإنسانية المتنوعة أرساها باحثون من جيل علماء الاجتماع الجزائريين المجهولين بسبب جذورهم و تيارات بحثهم و فروعهم.و أسست لمدرسة بحث في الأنثروبولوجيا و علم الاجتماع تجاوزت المدرسة الكولونيالية، لكنها اصطدمت بسيطرة منظومة التفكير الماركسية على غالبية الباحثين الجزائريين. ينظر لعلماء الاجتماع من أمثال فاني كولونا على أنهم غير أنقياء، لكونهم نتاج تاريخ مزدوج كولونيالي و وطني، لكنهم مثيرون للجدل و مؤسسون لمدرسة ستصير بمرور الوقت جزائرية خالصة، مثلما يقول باحثون جامعيون عملوا مع فاني التي اختارت أن ترقد في تربة قسنطينة مجاورة لقبر والدها جان رينو الذي قتل بعد أشهر من اندلاع الثورة التحريرية عام 1955، لأنه كان يرفض الحراسة التي عرضتها عليه الإدارة الاستعمارية، مفضلا العيش وسط الجزائريين باعتباره ممثلا للإدارة المدنية تربطه بهم علاقات حسنة، و لا خوف فيها وفق ما ذكر مطلعون على سيرة عائلة الباحثة الراحلة خلال مراسيم دفنها بالمقبرة المسيحية في قسنطينة بداية الأسبوع. ولدت فاني رينو كولونا في ثنية الحد بمرتفعات الأوراس عام 1934 من عائلة معمرين من جنوبفرنسا استوطنت الجزائر في نهاية القرن التاسع عشر، و اختارت في حياتها مسارا مختلفا عن الطريق التي كانت تعدها له تربيتها الأولى بصفتها ابنة معمرين فرنسيين، فتعلقت بالجزائريين أبناء الأرض و عاشت وسطهم و صارت واحدة منهم في تعارض مع علاقات عائلتها و توجهاتها، و لم تبعدها ثورة التحرير عن مسارها، رغم مقتل والدها في ظروف تراجيدية، يعتبرها البعض خطأ من عناصر جيش التحرير الوطني من الفدائيين في مدينة قسنطينة، و هو ما يفسر عبارة السلطات الاستعمارية «مات من أجل فرنسا» المنقوشة على حجارة قبره. في خضم الحرب تزوجت فاني من بيار كولونا و أنجبت أبناءها، و بدأت دراستها الجامعية في جامعة الجزائر المركزية بالعاصمة، و عكس جمهور الفرنسيين الذين اختاروا بعد الاستقلال مغادرة الجزائر قررت فاني و زوجها البقاء و حمل الجنسية الجزائرية. قدمت مذكرة لنيل شهادة الدراسات المعمقة عام 1967 عن مولود فرعون، تحت إشراف مولود معمري، و بعد أشهر صارت أستاذة مساعدة في كلية علم الاجتماع بجامعة الجزائر، و شرعت في التحضير تحت إشراف بيار بورديو عالم الاجتماع المشهور رسالتها للدكتوراه من الدرجة الثالثة حول المعلمين الجزائريين ما بين سنتي 1883 و 1939، التي ناقشتها في باريس عام 1975. و لما تولى مولود معمري رئاسة المركز الوطني لأبحاث ما قبل التاريخ عام 1969 قام بدعوة طالبته السابقة و زميلته في جامعة الجزائر للالتحاق به لتشكيل نواة الباحثين الجزائريين بالمركز. و خلال عشرية السبعينات قامت فاني بأبحاثها السوسيولوجية الميدانية في تيميمون و الأوراس، و تعرفت بقوة على الوسط الثقافي و الفني و الفكري الجزائري. يرى باحثون بمعهد البحوث و الدراسات حول العالم العربي و الإسلامي التابع للمركز الفرنسي للأبحاث العلمية في جامعة إيكس مرسيليا الفرنسية في مقال مشترك وقعه كمال شعشوعة و محند أكلي حديبي و عز الدين كنزي و لويك لوباب و منهم طلبتها سابقا أنها استطاعت في تلك المرحلة من بحوثها في عمق المجتمع الجزائري أن تقطع الصلة بالأبحاث الاجتماعية الكولونيالية و تبرز بأسلوبها و طريقتها الخاصة. و حين صارت الأبحاث الاجتماعية الجزائرية ذات إشعاع قوي في تلك الفترة بنت كولونا توجهها في البحث و عرفت كيف تتجاوز الإرث الكولونيالي الذي يفرق بين كل الجماعات العلمية في الجزائر و خارجها بعد أن وعت دروسه و حفظتها. «الآيات التي لا تقهر» تحولات الخطاب الديني في المجتمع الجزائري بعد عمر طويل و أبحاث متنوعة نشرت فاني كولونا بعد عام من مغادرتها الجزائر عام 1993 كتابها «آيات ضد القهر» كما صدر في فرنسا و الذي صدر مؤخرا في الجزائر بعنوان «صمم عام» و كان الكتاب الذي يبحث في تحولات الخطاب الديني في المجتمع الجزائري بحسب بعض طلبتها من دكاترة يؤطرون الجامعات الجزائرية في تيزي وزو و العاصمة و خارج الجزائر، نموذجا للنظرية المتوحدة التي صارت تنتهجها فاني كولونا في دراساتها، و فيه نجد أسلوبا خاصا بالباحثة التي تجمع وجها لوجه و جنبا لجنب بين النظريات و المصادر و مواد التفكير و وضعيات و حالات متنوعة مختلفة، و قال دارسون للكتاب أنه جاء قبل وقته و متأخرا عن زمنه في آن واحد، ليس فقط لأنه في سنة 1994 لم يكن الإسلام الريفي مشكلة في الجزائر التي كانت وقتها تواجه الإرهاب الإسلامي، بل لأنه يحفر زاوية نظر مبتكرة لا تثير الانتباه في أوساط العلوم الاجتماعية الجزائرية، التي تسيطر عليها رؤية ماركسية طاغية و طابو سياسي لا يزال حيا في كل ما يتعلق بالدين الإسلامي. تساءلت فاني كولونا في كتابها عن الدين الذي يوصف بأنه أفيون الشعوب باعتباره قوة خارقة للتجنيد، قائلة أننا ننسى في كثير من الأحيان أنه أيضا طريقة للتفكير في شؤون هذا العالم في كليته و في علاقات الحدث و التغييرات الطارئة عليه، و بينت في كتابها أن النص المقدس الذي لا يقبل التغيير بطبيعته يمكن أن يكون ليس فقط خطاب عالمي فوق الجماعة و الدولة و الفئة و القبيلة، بل أيضا، مادة تاريخية نظرا لكون الأشخاص الذين يتولون نقله عبر الأجيال يعاصرون ظروفا تاريخية معيشية هشة، و نقلت أنه في منطقة الأوراس بشرق الجزائر وجدت أناسا مختلفين من جبليين في الغالب و من فلاحين مربي مواشي و ريفيين لهم لغة قديمة خاصة بهم ليست هي لغة القرآن يؤيدون نظريتها حول الخطاب الديني، و رصدت في أربع قصص مادتها من الأرشيف و من الحكايات التي رواها لها سكان الأوراس كيف تطور الخطاب الديني، و استعملت كولونا أدوات تحليل النص و التساؤلات الخاصة بعالم الاجتماع، و كشفت أن النصف الأول من القرن العشرين مهم جدا لفهم المجتمع الجزائري في نهاية القرن ذاته، و قدمت طريقة خاصة لفهم و قراءة ماضي غير بعيد غني، لكنه لا يزال غامضا، و عرضت أجدادا غير متوحشين على حسب عبارة كاتب ياسين، لكنهم منتجون لثقافة يحتل فيها الدين كل مكان، و على العكس من ذلك في الوقت الحالي منتصف التسعينات صارت لتلك الثقافة رغبة قوية و عشق للحياة لأنها أدركت معنى الخيالي و الخارق و تعلمت فن السخرية اللاذع. عمر شابي الدكتور محند أكلي حديبي يتذكر فاني كولونا كانت صارمة مع طلبتها لكنها تعرف متى و كيف تريحهم التقت النصر أحد طلبة فاني كولونا في مراسيم تشييع جثمانها بالمقبرة المسيحية بقسنطينة السبت الماضي الدكتور محند أكلي حديبي الذي درس الأنثروبولوجيا على يد الباحثة التي يقول أنها الوحيدة التي تطرقت للدين الإسلامي من الناحية الأنثروبولوجية، و أضاف في حديث لاحق أنه تلقى طيلة عام كامل دروسا في قسم البربرية بجامعة تيزي وزو خلال التسعينات من فاني كولونا التي كانت تشغل كرسي أستاذة الأنثروبولوجيا، و اشرفت على رسالة ماجستير أعدها حول أنثروبولوجيا الدين من خلال أحد الأولياء الصالحين بمنطقة القبائل. يتذكر الدكتور أكلي حديبي و هو باحث في عدة مراكز جزائرية و عالمية أن فاني كولونا كانت صارمة للغاية في عملها و علاقتها بطلبتها و كانت لا تتساهل مطلقا فيما يتعلق بالبحث و الدراسة و تطبق معايير عالية الجودة و الإتقان على طلبتها الذين ترهقهم في عملهم لكنها كانت تعرف جيدا متى و كيف تريحهم من مشاق العمل. بعد مناقشته رسالة الماجستير توظف الدكتور حديبي في جامعة تيزي وزو و صار زميلا لأستاذته فاني كولونا التي قام رفقتها بإعداد رسالته لنيل شهادة الدكتوراه حول التراث في مدينة بجاية، و شارك معها في أبحاث ميدانية بمصر حول المثقفين المصريين العائدين إلى مواطنهم الأصلية في القرى. و يؤكد محدثنا أن ما تعرضت له أبحاث فاني كولونا من عدم فهم لدى علماء الإجتماع الجزائريين كان بسبب هيمنة الرؤية الماركسية على أذهان الكثيرين منهم، و هؤلاء مثلما أشار إليه الدكتور أكلي ذاته رفقة ثلاثة باحثين آخرين من مركز الدراسات حول العالم العربي و الإسلامي بجامعة إيكس مرسيليا يرون أن الماركسية في علم الإجتماع ترفض و تمنع دراسة الدين كظاهرة اجتماعية سواء من منطلق فكرة الإصلاح و تبني مقولة أنه لا يجب التفكير في المسائل الدينية أو من خلال تبني فكرة دوركايمية تفيد أننا نعلم كل شيء و لا حاجة إلى المعرفة الدينية. و أكد الدكتور حديبي أن فاني كولونا خرقت هذه القاعدة و تناولت الدين من منظور أنثروبولوجي مغاير لما تناوله علماء الاجتماع من المدرسة الكولونالية و تطرقت إلى المعرفة الريفية و إلى الكثير من مناحي الظاهرة و الممارسة الدينية في المجتمع الريفي الجزائري سواء في منطقة الأوراس أو في منطقة القبائل و اعتبر أنه بخلاف كتابات محمد أركون لا توجد مطلقا كتابات علمية أنثروبولوجية أو اجتماعية عن الدين في الجزائر بخلاف ما نشرته فاني كولونا. و ذكر الطالب السابق لفاني كولونا في جامعة تيزي وزو أن الباحثة لم تكن تتحدث الى طلبتها مطلقا عن ظروف حياة عائلتها و لا عن والدها و لم تكن تشير بالمرة إلى اختياراتها في حياتها التي كانت خارج المألوف في سلوكات أبناء المعمرين الفرنسيين، و قد عملت في كل حياتها الجامعية كأستاذة و باحثة على منح الجزائر كل حبها و شغفها العلمي و هو ما انتجته في كتبها العديدة التي صارت و ستبقى لمدة طويلة مرجعا كبيرا للباحثين والدارسين الراغبين في معرفة تطور و بنيان المجتمع الجزائري.