"زنقة الدلالة".. قبلة العرائس و بوابة البطالين لدخول عالم الثراء في قلب شارعي الرصيف و الجزارين المتداخلين وسط قسنطينة القديمة، توجد زنقة الدلالة أغلى سوق فوضوية لتجارة الذهب بالمدينة ، سوق عمرها سنوات ،يتم فيها تداول ملايير الدنانير يوميا ، و المعاملات فيها قائمة على نظام الثقة المتبادلة، بين باعة شباب يحلمون بالثراء السريع ،و وسطاء يتحكمون في كل خباياها. سوق تعرف تجارها بمجرد دخولك شارع الدلالة، يستوقفك شباب بعبارة « كاش ما تشري كاش ما تبيع»، تجدهم يتجولون دون حرج بين محلات واجهات الصاغة، و بأيديهم كميات من المجوهرات الذهبية المستعملة، يلحون عليك للتوقف و إلقاء نظرة، قد تتوقف من باب الفضول، لكنك سرعان ما تجد نفسك مهتما ببضاعتهم، و السبب هو أسعارها المغرية، فالسوق الموازية، حسب وليد، و هو أحد أقدم تجارها، تكسب زبائنها من خلال كسر أسعار السوق النظامية. محدثنا كان أول من استوقفنا عندما دخلنا الشارع المتواجد بالجهة العلوية للرصيف، أخبرنا بأنه يمارس تجارة الذهب منذ سنة 2000، حاله حال الكثير من شباب المنطقة، الذين منهم من حالفه الحظ و استطاع الحصول على محل بعد سنوات قليلة من العمل ،و منهم من اضطر لترك الشارع، و البحث عن باب آخر للرزق ، فسوق الدلالة، كما أضاف، حكرا على أبناء المدينة القديمة دون غيرهم. معظم تجارها من سكان الرصيف و الجزارين، فهذا « الكار «، على حد تعبيره ، قائم بالأساس على الثقة، و أسراره لا تلقن للغريب. سألنا وليد و باعة آخرين عن مصدر بضاعتهم، فأخبرونا بأن وسطاء من مدينة باتنة، و العاصمة، يعملون على تزويد السوق باستمرار بالسلع ، حيث ينزلون كل فترة و أخرى إلى شارع الدلالة لعرض بضاعتهم، و لكل تاجر الحرية في اختيار ما يريد ،حسب إمكانياته، و يكون الدفع ،إما دفعة واحدة أو عن طريق التقسيط، مقابل هوامش ربح متباينة عن كل قطعة تباع، و هنا عاد وليد للتأكد على أن مفتاح سوق الذهب هو الثقة. حسبما علمنا من نفس المصدر ، فأن رأس مال بعض تجار الشارع يتعدى 200 إلى 400 مليون سنتيم، بالرغم من أن بداياتهم كانت بسيطة ، بمبالغ لم تزد عن 10 إلى 20 مليون سنتيم، غير أن ارتفاع أسعار الذهب في السوق النظامية ، ساعدهم على كسب زبائن أكثر، و بالتالي حقق لهم الربح في وقت قصير. زيادة على ذلك، فإن فن التعامل مع الزبائن، و القابلية لتقاسم الأرباح بين الدلالة، من العوامل التي من شأنها أن تصنع للدلال اسما في السوق، و تضمن له زبائن أوفياء. ما جعل حرفة الدلالة، قبلة لشباب كثيرين، من بينهم خريجي جامعات ،و حملة شهادات، فحسب رياض ، وهو دلال ذهب منذ حوالي خمس سنوات، بإمكان المرء أن يحقق ربحا بقيمة 40 ألف دج في اليوم الواحد، إذا كانت السوق ناشطة. فرق الأسعار يستقطب العرائس و الباحثين عن الفرص خلال تواجدنا بزنقة الدلالة ،لاحظنا الإقبال الكبير للنساء على باعة الذهب الفوضويين، تقربنا من بعضهن، فأخبرننا بأن غالبيتهن فتيات مقبلات على الزواج، فضلن السوق الموازية على محلات الصياغة ،بسبب الفرق في الأسعار و توفر الخيارات، فالدلالة لا يمتهنون البيع فقط، بل يوفرون إمكانية التبديل أو المقايضة، أو خدمة البيع مقابل الفائدة كذلك. فقد أسر لنا بعض الباعة، بأن الفرق في الأسعار بين السوق النظامية، و الموازية،هو ما يضمن استمرارية النشاط غير النظامي، إذ يعادل هذا الفرق عادة 1000 إلى 1800دج في الحلية الذهبية الواحدة ، حيث يقدر سعر غرام واحد من الذهب المحلي المستعمل أو « لا كاس» بسوق الدلالة 3800 دج، مقابل 4000 دج لغرام الذهب المستورد. و يعد السبب الرئيسي وراء هذا الفرق، هو نظام البيع و نوعية المنتوج ، فذهب الدلالة عادة لا يحمل الوسم التجاري، كونه مهرب، و لا يخضع للضريبة، كما أوضح لنا تجاره، ناهيك عن عملية البيع التي تتم دون وصولات أو ضمان. أما بالنسبة لأسعار البيع العادية المتداولة حاليا، فتسجل فرق 1000 دج عن السوق النظامية، ففي الوقت الذي يبلغ ثمن غرام الذهب المحلي 6200 دج في محلات الصياغة ، تبلغ قيمة الغرام عند الدلالة 4400 دج ،بالنسبة لذات الصنف، مقابل 5200 دج للمستورد. و تحدد الأسعار حسب دلالة شارع الرصيف، حسب معطيات بورصة الذهب الدولية، و أهمية الموسم، حيث توقع البعض منهم بأن سعر الغرام قد يصل إلى حدود 8000 دج في غضون الشهرين القادمين، تزامنا مع حلول الربيع، و نشاط موسم الأعراس و المناسبات في الجزائر. محدثونا سردوا لنا قصصا كثيرة حول نشاطهم في السوق ، قائلين بأنه يعود للحقبة العثمانية ، حيث كانت الدلالة ،حسبهم ،حكرا على يهود المنطقة و بالأخص النساء، قبل أن تتطور الأمور خلال الحقبة الاستعمارية و ما بعدها لتختزل السوق في الشارع الذي تتواجد به حاليا. عبد الله صاحب 40 سنة، أخبرنا بأنه يمارس دلالة الذهب ،منذ كان في سن 22 ، لكن الحظ لم يحالفه كغيره، فهو كما قال يفضل الرزق الحلال عن الربح المشبوه، موضحا بأن السوق لم تعد كما كانت ،فتغير المعطيات الاقتصادية بالبلاد، قلص المعاملات المالية بين الباعة، كما تسبب في تراجع الإقبال على الشراء، خصوصا بعدما أصبح أصحاب محلات الذهب يقبلون التعامل عن طريق الدين و التقسيط لجذب زبائن أكثر. و أضاف محدثنا: « لم تعد الدلالة كما كانت سابقا، فمخاطرها أحيانا أكثر من ربحها، صحيح أننا لا ندفع الضرائب، لكننا معرضون دائما لخسارة رأس مالنا، بسبب مداهمات رجال الأمن التي تزداد بقوة خلال كل رأس سنة، منا من حجزت بضاعته المقدرة ب300 مليون العام الماضي». سألنا عمي عبد الله عن مشكل الذهب المغشوش الذي يتم تداوله بقوة في السوق السوداء، فأوضح لنا بأن السنوات الأخيرة شهدت دخول كميات كبيرة منه، مشيرا إلى أن بعض الباعة يتعاملون به دون ضمير ،خصوصا الدخلاء على الحرفة، معلقا: « شباب اليوم همهم الوحيد هو الربح، معظمنا هنا يعرف بعضه البعض و نتعامل بمعيار الثقة، لكن البعض أفسدوا كل شيء بسبب جشعهم». كما أسر لنا أن هذه التجارة وإن كانت تبدو فوضوية، لكنها تخضع لنظام خاص يمر عبر شبكات المافيا التي تستورد الذهب المغشوش من الخارج، وتعيد تسويقه بعد أن تعاد صياغته وتصنيعه في محلات وأماكن سرية. كمحاولة لكسب ثقة الزبائن، يقوم بعض تجار هذه السوق، بعرض خدمات على زبائنهم تتمثل في الذهاب إلى محلات الذهب المنتشرة في الشوارع المقابلة « لتعيير» الذهب، ومعرفة إن كان أصليا خالصا أو مغشوشا. الذهب المغشوش سرطان ينخر السوق ولكن الضالعين في هذه التجارة يعرفون جيدا أنها مجرد حيلة لاصطياد الزبائن، لأن السمسار يتفق مع صاحب المحل على تقديم حصة معينة من الأرباح ،مقابل تقديم شهادة البراءة للزبون بشأن السلعة التي يشتريها. مع ذلك يضيف محدثنا ، بأن الاتفاق بين التاجر و الزبون، يبقى مرهونا بمعيار الثقة قبل كل شيء. للتأكد من الأمر، حاولنا سؤال بعض أصحاب محلات الذهب بشارع الجزارين ، لكننا لم نقف على إجابة واضحة، حيث أكد لنا جلهم بأن الذهب المغشوش، سرطان ينخر السوق، فحتى بعض المحلات النظامية أصبحت تعرض ذهبا غير موسوم ،هروبا من الضريبة التي تفرضها السلطات على مثل هذه المعادن ، حيث يقر محمد، صاحب محل لبيع الذهب، أنه و في ظل سيطرة بارونات الذهب على السوق، تراجعت أرباح و مداخيل المحلات النظامية التي لا تتجاوز في أحسن الأحوال 500 ألف دج شهريا، الأمر الذي دفع أصحابها إلى ترويج الذهب الذي لا يحمل الوسم و طابع الضمان. و أكد لنا صاغة آخرون بأنهم كثيرا ما يستقبلون زبونات، تعرضن للاحتيال من قبل باعة السوق الموازية ، و كن ضحايا للتجارة الموازية التي وفرت بيئة خصبة لترويج الذهب المغشوش.