تاريخ الخطاب الأيديولوجي هو تاريخ لإنتاج " الكذب الرسمي " ، يتصف على العموم بتكوين تصورات اختزالية و انتقائية لا تهم درجة الصدق فيها بقدر ما يهم دورها في التعبئة العامة حول المشروع . إن النموذج الشيوعي خلال القرن العشرين و من خلال وعوده بمجتمع لا طبقي و عدالة لاغيه لكل الامتيازات الارستقراطية و حكم للطبقة الشغيلة , أقرب مثال على ذلك . كل خطاب إيديولوجي هو خطاب للامعقولية و للإبعاد والشقاق , فالأيديولوجية البعثية بدورها انخرطت ضمن نفس الحقل المعرفي باعتبارها تنادي بالانتماء العرقي و اللغوي كأساس لبناء مجتمع ما بعد حقبة الاستعمار. و دائما و ضمن نفس النسق نجد الخطاب الاسلاموي بدءا من عشرينيات القرن الماضي يدعو إلى مجتمع جديد يعيد للإسلام مكانته , يصنف نفسه ثوريا في مقابل الخطاب و الدين اللذان تتبناهما السلطة القائمة من جهة و الموروث السوسيو ثقافي من جهة أخرى. ردود الفعل في كل أشكال الخطاب الإيديولوجي متشابهة , فكل عداء للخطاب الأحادي الاشتراكي كان يوصف بالعصيان المدني و كل اعتراض على التصور البعثي وصف بالعداء للقومية و الوطن و كل وقوف في وجه المشروع الاسلاموي يقابل بالتكفير و العمالة للغرب . ماذا نعني بالاسلاموي ؟ و لماذا لم نقل إسلامي ؟ لأنه بالأساس خطاب لمناضلين ينتمون إلى تشكيلات سياسية و مشروع سياسي يحمل هموم سياسية لا معرفية يهدف إلى انتزاع السلطة من الغير , لا أكثر و لا أقل و ينتظم من خلال تجمع عالمي أو إقليمي . فهو خطاب يقدم نفسه حلا متكاملا و نهائيا لكل المشكلات , يعد ككل الأنظمة الشمولية بالعدالة و المساواة و التحرر لكن على صعيد البراكسيس نجده أجوف لأنه لا يستند على أي رصيد معرفي أو علمي , أي أنه غير قادر على تقديم معالجة عميقة و جذرية للمسائل الاقتصادية و الاجتماعية . من الجانب السياسي نجده لا يؤمن أبدا بالمشروع الديمقراطي الذي يساويه بغيره من التشكيلات السياسية والذي ينزع عنه أسطورة الأفضل , فهو يرفض التعددية و حق الاختلاف والرأي وكل ما يميز الممارسة السياسية المعاصرة من تناوب على السلطة .., فهي ناقصة في تصوره و الحل يكمن بالنسبة له في إلغائها. تبنيه الاستراتيجي للتعددية و مشاركة تنظيماته في الاقتراع العام ليست سوى خيار يفرضه نزوعه نحو امتلاك السلطة و الإمساك بها للأبد. انه لا يؤمن بالحدود الجغرافية و الاختلافات الاثنية التي رسمتها مرحلة ما بعد الاستعمار بين أقطار المنطقة العربية أو الإسلامية إنها مجرد عقبة مرحلية يمكن تخطيها في إطار مشروعه الدولي . كيف يقرأ الاسلاموي التاريخ كيف يقرأ الحدث انه خطاب تخترقه التناقضات من الداخل في بنايته و بشكل رهيب , فهو لم يكتف بانتقاء النماذج التي تؤيد مشروعه الأممي من التاريخ العريض بالشكل الذي يخدم تصوراته , بل نجده ينصب نفسه وصيا و حاكما على تجارب الأخر الأوروبي عدوه الأول .ففي كل مناسبة لا تفوته فرصة التذكير بهمجية الاكليروس – في القرون الوسطى - من خلال ذكر عيوب القساوسة ووقوفهم ضد العلم و العلماء و توظيفهم الدين لخدمة مصالحهم الشخصية والدنيوية و تحصيل امتيازات عقارية أو غيرها في ظل النظام الإقطاعي . يذكرنا بحرق الكنيسة لكتب العلماء و محاكمة جاليله لأنه برهن على دوران الأرض ودعا إلى لا نهائية الكون و جيورداو برونو الذي احرق حيا على كوم حطب لأنه قال بإمكان وجود عوالم أخرى متعددة خلقها الله لا تقل في قيمتها عن عالمنا الأرضي و اعتقد في المعرفة العرفانية أسلوبا في العبادة و المعرفة. يعيب على الاكليروس الحرق و التهجير و الاضطهاد و الاستبعاد و لا يعيب على من يجيز ختان الفتيات أو زواج القصر في المنطقة الإسلامية وشطحات بعض الشيوخ ممن يدعي أن الأرض لا تدور . انه خطاب يسكت حين لا يجب السكوت , فهو اليوم يحشد الملايين من اجل التصدي لكل محاولات التشويه التي طالت الدين و الرسول (ص)على يد بعض الكاريكاتوريين في القارة الأوروبية ولا يحرك ساكنا ضد همجية بعض القوى الاسلاموية التي تنتسب إليه و تقاسمه نفس الرؤى . لقد سكت على تدمير تماثيل بوذا بالديناميت و سكت على حرق أرشيف مكتبة الموصل و تحطيم أثار سومر و أشور في العراق . انه سكت على محاكمات الرأي والتشهير بالقتل التي كان ضحيتها مفكرين و فنانين ( اتينة فرغداني في إيران ,يوسف شاهين و طه حسين في مصر , البنت مالالا يوسف زاي في باكستان المناضلة من أجل حق الفتاة في التعليم الحكومي , محمد أركون و كمال داود في الجزائر ...و القائمة طويلة ) . تاريخ الإنتاج الحضارة العربية بالنسبة للاسلاموي هو مسلسل للخطايا و لا يمكن أبدا اعتباره مرجعية لمشروعه السياسي , انه يقلصه في فترة لا تتجاوز الثلاثين عاما أو أكثر بقليل تنتهي بعصر الخلفاء الأربع . انه لضرورة التعبئة و استقدام المؤيدين و الانفراد بالكلمة نجده يستحل كل الأساليب بما فيها القوة بإشكالها اللفظي و الجسدي باسم الدين من خلال خطاب عدائي لم يصنع سوى تعميق الهوة بيننا و بين الغرب . لم تكن الحركة الإصلاحية ممثلة في محمد عبدو , جمال الدين الأفغاني ,و رفاعة الطهطاوي...تحمل مثل هذا العداء للأخر المختلف بل بالعكس نجدهم دعوا إلى ضرورة التقرب من التجربة الأوروبية و الاستفادة منها. إنهم أنتجوا فكرا يتساءل عن أسباب التقهقر الإسلامي و دعوا إلى التفكير جديا في طرق اللحاق بالتاريخ الذي يصنعه من لا نحبهم . مقاربة بسيكو ابستمولوجية الأنا في مقابل الأخر ماذا يؤسس معرفيا الخطاب الاسلاموي ؟ و ما حدود العقل فيه ؟ هي مجموع الأسئلة التي تمكن من الوقوف على الخطوط العامة التي توضح انتماء هذا الشكل من الخطاب إلى نفس الحقل المعرفي الذي أسس للإيديولوجيات الكبرى عبر التاريخ . انه خطاب للاوعي بما تكنزه الذات الفردية و الجماعية من موروث معرفي و اجتماعي يريد أن يطفو إلى السطح و يبحث عن مكان له بين الأنساق المعرفية الجديدة , فالأخر ككيان مستقل عنا يجب التعالي عليه و احتواءه ضمن الأطر المعرفية التي نحملها وهو ليس موضوع الهام يؤثر في بنيتنا أو يقاسمنا المساحة . الأخر الغريب موجود ليكون ضمن ما نختاره من توجه و ليس شريكا في صنع المستقبل , لأننا نملك اليقين و الحل المكتمل الذي عجز عن تحقيقه الجميع . المعرفة منتهية وليست أزلية متجددة، فهي محددة مسبقا والمطلوب فهمها وتأويلها في معالجة المستحدث ,وهذا ما يجعل الاجتهاد مستحيلا اليوم بعد أن كان هو جوهر الفكر في المراحل الأولى من القرون الوسطى . إن المعرفة ذكورية و نخبوية ليس للمرأة أو العامة نصيب فيها . وحدها المعرفة العلمية في شقيها الرياضي و المخبري ما يمكن وصفه بالنسبي المتجدد والقابل للنقد , إن المعرفة أحادية و ليست متعددة و هذا ما يفسر العداء الموجود بين المذاهب . فالاختلاف يمثل عقبة أمام العقل و ليس قيمة معرفية أو اجتماعية و هو ما يفسر نسبيا العداء الذي يحمله الخطاب الاسلاموي للدين كتقليد اجتماعي تتبناه الدولة أوالدين في الفهم ألعرفاني . العقل الاسلاموي عقل تفاضلي يميز بين أشكال من المعرفة تتسلسل ترتيبا في قيمتها لكن تبقى الأولوية للمعارف الدينية الروحية و هي الأصل و المنطلق . إن للعقل الذي أسس للخطاب الاسلاموي نفس مواصفات العقل الذي تكلم عنه ليفي ستراوش لدى مجتمعات ما قبل القراءة , فهو خائف باستمرار من الأخر الدخيل الغريب معتز بانتمائه للرأي الجمعي وللجماعة التي تعلو سلطتها على سلطة الفرد , غير منفتح على الجماعات الأخرى و ليس لديه أي إرادة في التغيير. للمقدس مكانة مميزة يشاركه فيها تاريخ إنتاج الخطاب الديني والسياسي عموما , إذ نجده يسقط التقديس على أفعال و أقوال بشرية و يلبسها أكثر مما تستحق ليجعل منها نموذجا لا ينضب يتخطى الحدود و الزمن . الحقيقة قبلية ولا تصنع تدريجيا , والجهاز المفهومي أصيل و كاف غير قابل للنقد أو إعادة النظر و كل خروج على الأصل المتعارف عليه يوصف بالبدعة . تم تاريخيا اختزال التفكير الديني في ثنائية الحلال/ الحرام و في متطلبات العبادة اليومية و لم يصبح فكرا يصنع المعرفة و المناهج , انه يشتغل من خلال هذه الثنائية التي لم تكن أصلا فيه في السابق و هو ما جعله فكرا للإقصاء و التفرقة بعد أن كان يجمع المختلف والمتعدد في نسق واحد ,لقد صنع لنفسه إطارا مغلقا افقده السمة التي جعلت منه منتجا في الماضي . انه مغلق من حيث أن المعرفة تتمثل في " أنا " و ليست في " نحن " هو في عداء مع الجميع و يعتمد على تصنيف هذا " الأخر " ووضعه ضمن خانة معينة للتعامل معه وفقها . ليس المطلوب تغيير الواقع بل المطلوب كيف نحقق الماضي في هذا الواقع اليومي . انه خطاب العاطفة و الحنين إلى المنتهي و الجاهز و ليس خطاب للعقل الذي يشك باستمرار و يتأسس تاريخيا , مما يجعل من غير الممكن بالنسبة لهذا النوع من التفكير أن يساير الحياة المدنية في عصرنا اليوم و متطلباتها المعقدة , انه جاء ليلغي كل النماذج السياسية الأخرى من خلال أسلوب الإقصاء و التكفير بعد أن كان العربي المسلم يترجم للإغريق ويقدم الشروح لأعمالهم و يضفي على العقل الإغريقي نفس القيم التي يضفيها على العقل الديني ,هو الآن يرهن وجوده و بقاؤه بإلغاء الآخرين الذين في فهمه يشكلون تهديدا مباشرا . انه ليس خطابا جاء ليشارك و يسهم بل هو من الأنانية و الغرور ما جعله يريد كل المساحة لنفسه دون سواه , فهو مثقل ابستمولوجيا بنفس عيوب الإيديولوجيات التي شكلت تاريخيا أحد أوجه الفكر الإنساني في القرن العشرين , و من غير قناعة اكتساب الحقيقة و طابو امتلاك اليقين نجده قد رسم لنفسه الانتهاء و الزوال . فبعد أن كان الخطاب الديني ينتج العلم و يساهم في صنع التاريخ و الحضارة صار اليوم وفق التفكير الاسلاموي أسلوبا يتفنن في القتل و الإبادة و التهجير . لقد جعل من المنطقة العربية عدوا للبشر بعد أن كانت منطقة اجتذاب بروحها الشرقية الشاعرة التي ألهمت العديد من الفنانين والمفكرين الأوروبيين . من الخطأ الاعتقاد في وجود خطاب اسلاموي معتدل يقابله أخر متطرف , انه نفس الخطاب و نفس الرؤية و نفس المشروع انه خطاب لازمة في العقل .