1 -مقاربة عامة: رحيل الجابري جسديا، وعلى مستوى العطاء الفكري اللاّمركزي الذي اجتهد بتقنيات تفكير آكاديمي مختلفة عن أسلوب الاجترار الذي تشهده الجامعات الإسلامية عامة، والعربية خاصة، نسجّل نكبة جديدة في سجّل التطوّر العربي المتلكّئ، وانتصارا ضروسا لحرب الجهل والديكتاتورية السياسية والدينية التي تحاصر حياة الجماعة، وتقتل التصوّر الفردي بامتياز· فالرقي الفكري الذي ناضل لأجله سليل المدرسة الرشدية، وجعل من خلاله النصّ الفلسفي يرتقي إلى مصفّ الخطاب Discours عبر كل ما تحمله كلمة ''خطاب'' من معاني خاصة بنظام معرفي معيّن، يتيح للرؤية المنهجية سبيل النقد المتمكّن، بدل الاجتهادات الجزافية التي دأب عليها الكثيرون في الحكم على مظاهر الحياة، على جميع مستوياتها··· سيُنعي حظّه من جديد، مع كورس ندابات الإغريق اللواتي حملن لنا عبر طينة الجابري جنّة السؤال والمغامرة الفكرية العالية - وليس المتعالية - في أوطان يعاني نصف سكانها أو يزيد، من سأم الجهل، والنصف الآخر، من لذّة العيش في تجهيل النصف الأوّل: المازوخية والسادية، في سلال موحّدة الشكل والمضمون· مشروع الجابري، كغيره من المشاريع الفكرية العربية التي تبلّلت وفقدت ريحها ولونها من فرط تعنّت الأطراف المتناحرة على الاستحواذ على الرّمزيات، يلتقي حتما وحلم طه حسين، ونصر حامد أبي زيد، والبروفيسور محمد أركون، وجورج طرابيشي، وحسن حنفي، حتى وإن اختلفت الأدوات والمرجعيات المنهجية التي سلكها كل فرد، والتي أدت إلى الكثير من المناظرات والمحاضرات الفكرية التي جمعت هذه الأقطاب وغيرها حول ''نقد العقل العربي'' ونظام العقل العربي وبنيته، وأبستيمية العقل العربي، والخطاب القرآني واستعدادات قراءته، وتطبيقه في اللاوعي العربي، و''العقل السياسي العربي''··· إلخ من المفاهيم والتصورات الفكرية التي تبلورت في ثمانينيات القرن المنصرم، ووجدت لها الساحة الصحافية خاصة، والمنابر الفكرية الاشتراكية والماركسية، وحتى الإسلامية فضاء واسعا للنقاشات والطروحات التي اصطدمت، كما ذكرت آنفا في الغالب بجدران ردّ الصدى المعاكس أو الرّدع السياسي الذي يغتني ويعتاش دوما على تجهيل الواقع، واستعباد الناس، وتمرير المصالح الاقتصادية، وتقزيم الثقافي، وتجويع القوّة السوسيولوجية من أجل غصبها على تتبّع آثار جريمة الخنوع· شخصيا، أجد بأن المشروع الجابري الذي يضاهي حجم دولةٍ مثلما كتب عباس بيضون، قد استنفد مخزون عطائه في الثمانينيات والتسعينيات من القرن المنصرم على مستوى السّاحة الفكرية الآنية، حتى وإن لم يرتق إلى مستوى آمال صاحبه على مستوى الساحة المعاشة أو التجريبية، ولم يواكب مستجدات عصر الرقمنة والافتراضية والعولمة وصراع الهوية العربية وسط كل هذه المستحدثات المفروضة علينا، رغم اشتغال الجابري على بعض من تلك المفاهيم، كمفهوم العولمة الذي كان فضاء لموضة عصر بداية هذا القرن· ربما، سأحصر منجزه الفكري كله فيما يمكن تسميته بكلاسيكيات السّجالات الفكرية الحداثية، التي لا زالت بعد للأسف تجد صداها حتى الساعة في الساحة العربية التي لا زالت تتصارع لأجل الفصل في حيثياتها· ولذلك فإن مشروع محمد أركون الفكري، سيكون بحجم القارة هنا، مقارنة بتشبيه عباس بيضون لمشروع الجابري ! المشكلة، في الدول المتخلفة، تكمن في أسبقية الفكرة على الواقع· وهنا يمكننا أن نحيي تراث المدخل المنهجي الوضعي، ولكن دون أن نبتهج لهذا المنجز الخاص جدّا، لأن هذه الأسبقية، هي أسبقية قهرية عندنا، وليست استعدادا نفسيا أو تحضيرا سيكولوجيا للمرور إلى المرحلة الموالية، والتي هي مرحلة تكييف الواقع على المنجز الفكري· هذه المرحلة الأخيرة في حقيقة الأمر، هي التي تعطي للوضعية معناها، وليس المرحلة الابتدائية الأولى التي لا يمكنها أن تأخذ معناها دون أن تفكر بالاكتمال التطبيقي لها على ساحة الواقع· وعليه، فإن المشاريع الفكرية التنويرية التي تشتغل على تنمية الواقع العربي، واستنهاض طاقاته الكامنة، وفتح المجال أمام التلاقح الإنساني العظيم، ستظل هي العلامة البارزة أمام هكذا مشاريع فكرية،لم تسمح لها القوّة أو السلطة السوسيو- ثقافو- ساسية بالمرور إلى المرحلة الثانية من حياة الفكرة، وبالتالي فقد سمحت لها بالموت، أكثر من السماح لها بالحياة والترعرع، وإثبات الذات المفكرة· وعلى هذا المستوى، يمكن اعتبار تجربة محمد عابد الجابري، بمثابة التجربة الفكرية التنويرية التي ماتت ديناميكيا على مستوى ثقافة السلطة العربية، وتحققت كفكرة مرحلية في التجمعات النخبوية العربية، ليس إلاّ· ولذلك فإن الترجمة الألمانية - على سبيل الذكر فقط - التي صدرت سنة ,2009 والتي احتفت بها ألمانيا كثيرا، لبعض أعمال الجابري، لا يمكنها أن تتعدى عتبة توفير بعض المقاربات الإبستيمولجية التي تفضح الواقع العربي، وتؤكّد على اغتراب العقل، بالرغم من تواجد مشروع نهضوي- تنويري فكري كبير على مستويات عدة· هناك حلقة غائبة دوما بين الفكري والواقعي في عالمنا العربي الإسلامي، وهذا هو ما أراد أن يوضحه إجمالا مشروع محمد عابد الجابري· ولأن هذه الحلقة لازالت بعد غائبة، فإن مشروع الجابري سيظل مشروعا مفتوحا حتى الساعة للنسيان، أكثر من كونه مفتوحا لتأسيس أي شيء من شأنه أن يعطي الحياة معنى مختلفا عن التكرار المملّ الذي تلوكه أيامنا بسأم قلّ مثيله في الحضارة البشرية اليوم، وياللاسف· 2- هل انتهح الجابري فعلا سياسة ''تكتيكية'' في تعامله مع السلطة؟ كتب الدكتور شوقي الزّين حول استراتيجية تفكير الجابري، ملاحظة هامة جدّا، في تعليقه على مقاربتي العامة أعلاه، تجعلنا نميّز بين البراغماتية التي تُسلّحُنا بها الآكاديمية الغربية وتمنحنا ثقة عالية تباعا لذلك للجهر بضرورة الدُّخول السريع في المواجهة مع المسببات المُعيقة للنهضة الفعلية، وبين المبررات التي يستعملها المفكر العربي محليا، من أجل الحفاظ على الذات المفكّرة ربما، وتجنيبها بطش المؤسسة القمعية الحاكمة، والمسبقات الخطيرة التي تتسلح بها القوّة السوسيولوجية - الجابري نموذجا- : ''لقد اشتغل الراحل الجابري في ضفّة يمكن تسميتها مع ''ميشال دو سارتو'' بالتكتيكية، وتحاشى الدخول في المنطقة المحضورة ''للاستراتيجية'' (تشمل النظام السياسي، وسطوة المؤسسات الدينية، والنخبة المثقفة الرسمية)· حتى وإن كنت أعيب على الجابري اهماله للعرفان ليحشره في خانة اللامعقول نظرا لطغيان القراءة الابستمولوجية في تنظيراته، إلاّ أن الجابري كان طوال حياته زاهد··· مشاهدة المزيدا بمعنى ''الزهد الفكري'' و''التورّع الثقافي''· إذ كان على شاكلة ابن عربي أو ابن سبعين، قريبا من السلطة السياسية وفي الوقت نفسه بعيدا، مفضّلا الخلوة في متاهات الفكر، باحثا بنهم صوفي عن مواطن العلّة ومفاتن الملّة· لقد كان الجابري في نطاق ''الكتابة التكتيكية'' التي تتسلّح بالرؤية والرويّة في مقاربة واقع هيمن عليه ''الجبروت الاستراتيجي'' الذي جعل الجوّ خانقا وملوّثا يصعب التنفّس فيه، وفقد من مصداقيته· وليعوّض نقص المصداقية والشرعية يلجأ إلى طريقة عريقة في الزمن وهي ''القوّة'' و''العنف''· لقد كانت حيرة الجابري إزاء هذا الواقع ''حيرة صوفية'' و''دهشة عرفانية''· لم يفلح في استدراج العقل العربي إلى مواطن التعقّل والدخول في الحضارة مثلما فعلت اليابان وماليزيا والصين والبرازيل· لقد جمد العقل العربي بنواته القديمة الهشّة، وانغلق على ذاته ليفرّ إلى التبريرات الواهية، محبّذا الفرار من الواقع، والهروب من الحقائق· لقد كان الجابري العالم والمحقّق والشيخ الحكيم وسط راهن عربي مريض بعلله المزمنة ويكاد لا يشفى من ''الجرح النرجسي'' من جرّاء سقوط الحضارة الاسلامية· كما قالت أم أبو عبد الله عندما أعاد مفاتيح غرناطة: ''إبكي اليوم كالمرأة لأنك لم تستطع الدفاع عن مدينتك كرجل''· هذا الجرح النرجسي والحضاري يكاد العقل العربي لا يشفى منه، وعوض النهوض بثقافة عقلانية وسياسة ديمقراطية ومعرفة بنّاءة، يزداد هذا العقل من خيبته وحسرته، ولم يكن للشيخ الحكيم سوى رمي العصى والخلود إلى الخلوة في محاولة أخيرة وجريئة تتمثّل في قراءة جديدة للقرآن· وعندما يكتمل نشر الأجزاء كلها، نعرف وقتها إذا كان الرجل قد حرّك، ولو بقسط يسير النواة الصلبة للعقل العربي''· ولقد ارتأيت أن أعقب على هذه الملاحظة، كما يلي: لم نختلف في منحى اعترافنا بفشل المخيال العربي الحديث في ترقيع جبّة الإنهيار الميثولوجي الكبير الذي واكب سقوط غرناطة، وصرخة العقل ''العربي'' ممثلا في ملاحظة أم أبي عبد الله وهو يبكي كالنساء على مشارف مدينة غرناطة ''على ملك لم يحافظ عليه كرجل''· وكأن وازع هشام شرابي الذي نادى إلى ضرورة قياس حضارة أي مجتمع ،بقياس مكانة المرأة فيه ،هو ال··· مشاهدة المزيدوازع المباشر الذي حاول صفع الرجل العربي الغافل ،الذي لا يعرف كيف يحافظ على ملكه (حضارته)··· هذا الرجل الذي ظلّ يتعنّتُ حتى الساعة في الإعتراف بضعفه،وقلّة سلطانه على التأقلم مع القوة العالمية العظمى· ومكانة المرأة التي صفعت أبا عبد الله، معروفة اليوم في عالمنا المتخلّف· ربّما، محاولات رجالات العلم ،التي تريد أن تشير إلى مسببات خسارة العرب للحضارة العظمى التي ألمّت بنا،وأسقطت مكانتنا بين الأمم ، هي المنبّه الفيصل الذي لا تريد القوى المسببة ذاتها في سقوط تلك الحضارة سماع ندائه، وتطبيق حكمته، والقضاء على النرجسية التي أشرتم إليها بشكل ذكي جدا عزيزي شوقي· ولأن هذه القوى الدّامية ،تمتلك من السلطان والمال ما يتجاوز المشاريع الفردية للمفكر في هذه الأوطان، بل وحتى المشاريع النخبوية - المحفوفة بالسرية في الغالب-، فإنها حتما ستبوء هي الأخرى بالفشل· عموما، فإن مشروع الجابري، وبالرغم ممّا له وما عليه، يعود إلى صاحبه بفضل تحريك ديناميكا مفاهيم مثل: العرفان، والبرهان، والبيان، ضمن منظومة عربية يحاصرها الفشل المعرفي بشكل مهول، والطغيان الديكتاتوري بشكل أشدّ هولا· وبالرغم من تقوقع الجابري فعلا في نوع من التصوّف - التكتيكي- الذي يعود إلى العرفان، الذي ربما يأتي في مصفّ ثانوي نظرا للوظعية الحرجة التي نعيشها، وإلى نوع من انغلاق المشيايخ أو الزويّ، إلا أننا نجد بالمقابل ،نوعا من المحاولات الفكرية التي نفتخر بها، والتي حاول عبرها سنّ عقل سياسي عربي، ربما كانت تخونه شجاعة التطبيق - مثلما يحبّ أن يؤكد على ذلك محمد أركون-، وبالرغم من الإعتماد المنهجي للجابري على فكرة نقد السلطة التي تأتّت له منهجيا من ميشيل فوكو، إلا أننا سنعتبر هذا فعلا بمثابة المشروع الذي وجب تغذيته، وتطوير رؤاه، وإصلاحها، ووضعها على الطريق الصحيح- والذي من ضمنه مثلا، فكرة النقد الصريح والالتزام بالقضايا الصحيحة التي تؤدي بنا إلى الإنتماء إلى الدول التي حققت قطيعة مع مؤسسة العنف والقمع، بدل التقوقع والإنغلاق على نوع من العرفان البورجوازي الذي تغديه اصلا تلك المؤسسات القمعية، وليس فقط تخاذل المفكرين الذي يصبُّ في هذه المصلحة· لقد وجّه الزميل ازراج عمر لوما غريبا في مقاله هذا الأسبوع للجابري، على اعتبار أن الجابري حاول أن يعطي عقلا عرفانيا، لا يخرج عن محليته، وقام بمقارنة هذا مع العقل الخالص الذي سنّه كانط!، وأنا اتساءل فعلا، هل كان كانط الذي افتخر به في مقاربته أزراج عمر ينطلق فعلا من كرسي عاجي لا علاقة له بالتنوير وبالمحلية الأوروربية لتلك المرحلة، والتي مهدّت فيما بعد للعنصرية الاستعمارية وللنخاسة والنظريات العنصرية، وبالتالي أعطى كانط عقلا أنموذجا للإنسان؟ هل أعطى فعلا كانط عقلا أنموذجا للإنسانية؟ وهل إن بإمكان الجابري، أن يعطي حقا عقلا عربيا عرفانيا خالصا، مثلما حاول هو ذلك؟